جميعنا؛ كتابا ونقادا وروائيين، نؤكد أن القصة القصيرة هي الفن الأكثر صعوبة، مقارنة بغيره من الأجناس الأدبية الأخرى. هو فن يبدو للآخرين سهل المخاض، ويرى البعض، مقارنة بحجمه، أنه هو البداية التي تقود الكاتب، اعتمادا على عدد الصفحات، إلى الرواية أو النوفيلا. لكن هذا الاعتقاد لا يمت للواقع الفني والسردي بالحقيقة. فالقصة القصيرة، ربما بالنسبة لي، عمل مستقل يحتاج إلى ذهنية خاصة وإبداع، بمعزل عن واقع كتابي مختلف. لا يستطيع كاتب القصة القصيرة أن ينظر إلى عمله القصصي كعالم أقل إبداعا، لمجرد أنه كتب بمجموعة من الصفحات نقلت فكرة عابرة أو سلوكا اجتماعيا. هذه المقارنة بين القصة القصيرة والنوفيلا والرواية جعلتنا نهمل الإبداع الحقيقي للقصة القصيرة. بل على العكس من ذلك، عوالم القصة القصيرة تحتاج إلى تركيز ذهني حاد لا يقل شأنا عما يبذله الكاتب الروائي من جهد مضاعف.

هذه العوالم الصعبة جعلت كُتابنا يميلون إلى الكتابة السهلة، بمجرد إحساسهم بأن الأفكار التي تطرحها القصة القصيرة هي سرد لأحداث اجتماعية سهلة يمكن نقلها من الواقع إلى الورق. ومن بين هذه الكتابات القصصية يفاجئك كاتب يسير عكس السير، حتى يكاد يصدمك، إن لم يكن قد صدمك فعلا. ذلك ما حدث مع تجربة ضياء جبيلي، الذي قدم مجموعة قصصية حامضة تحت عنوان "لا طواحين هواء في البصرة"، يقدم من خلالها فنتازيا مؤلمة عن الحرب. من خلال تلك المجموعة يصور لنا ضياء العالم في حالة حرب غير واقعية. أنت أمام كتابة مغايرة ومشاكسة ومؤلمة تصور لنا بذاءة الحرب وهمجيتها منذ القصة الأولى لا يمهلك أن تفكر فيما هو قادم من قصص، أقل ما يمكن أن نقول عنها إنها مجنونة. يقدم لنا الكاتب منذ البداية بطل القصة القصيرة الأولى مبارك، الذي يعمل حارسا في معمل دواجن يقع جنوب البصرة ويحلم بالطيران، لكنه طار مرتين. لم يكن ذلك على متن طائرة، بل نتيجة قصف المعمل، حين قصفت سيارة الإيفا، التي تقل أربعين جنديا ماتوا جميعا إلا هو. والمرة الثانية حين اندلعت الحرب في عام 2003، ليجد نفسه كائنا من ريش، وكان عمره خمسين عاما.

Ad

هذه الفنتازيا، واعتمادا على بقية القصص، يمكننا أن نقول إن الأفكار التي يعتمد عليها ضياء جبيلي تحتاج إلى ذهنية حادة لا يمكن أن يمتلكها إلا كاتب كبير. القصص القصيرة في هذا الجزء، الذي عنونه بالحروب، نجد أن ضياء أنهاه بقصص قصيرة جدا كانت أكثر فنتازية من تلك التي بدأ بها. بعد ذلك، اعتمد الكاتب عناوين مختلفة، مثل: حب، أمهات، نساء، أطفال، شعراء، متفرقة.

فاز ضياء جبيلي عن مجموعته بجائزة القصة القصيرة التي تقدمها الجامعة الأميركية، بالتعاون مع الملتقى الذي يديره الروائي والقصصي طالب الرفاعي. والحقيقة أن اختيار اللجنة التي رأستها د. سعاد العنزي كانت تستحق هذا الفوز بجدارة.