اعتقني الشعر من الارتهان لأحد سواه، وحصنني من الرضوخ لأي إملاءات غير ما تنطق به شفتاه، وما أسمعه منه بقول صريح ولسان فصيح، وحررني من قيودي غير المرئية ومن تلك الأحجار الثقيلة المثبتة في أجنحتي، جعلني أتخفف من خطاياي، اغتسل من ذنوبي بالكلمات صبح مساء مرتين في اليوم، فأشعر كمن أكمل للتو حجته ممتلئا بالطهر، ولكن ليس بنية التوبة، بل برغبة اكتشاف خطأ جديد وشهية مفتوحة لتذوق ذنب شفيف.

حافظ الشعر على طفولتي طازجة على مراجيح براءتها ووسائد لثغة حروفها كل هذا العمر، حتى هذا الوقت، الذي أصبحت ملامحي ممزوجة بالرماد، ووهبني بصرا قادرا على فلق المحار في قاع البحر، ليخبرني بأي صدفة تخبئ اللؤلؤ في أحضانها، في الوقت الذي أكون أبني بيتاً من الرمل على الشاطئ والمد يغسل قدميَّ.

Ad

منحني الشعر ريشاً بلون كريستالي، وتصريح دخول لعالم سحريا، ودنيا بطعم الجنة العليا، تلك بعض فضائل الشعر وأفضاله عليَّ، وبعض جماله وجمائله، لكن هذا فقط الوجه المضيء لقمر الشعر، فللشعر وجه مظلم وملامح غاية في القسوة، فما إن يمتلك الشعر شيئا من روحك، حتى يرغب في امتلاك المزيد، وسيغريك بفراشاته الملونة، ونوارسه الذهبية، وعناقيد نجومه، وشهد معانيه المعتق، إلى أن تتنازل عنها طوعاً، وبكامل إرادتك شيئاً فشيئاً، حتى يصبح هو المتحكم فيها، ولا تعود تملك من أمر روحك شيئاً، حينها لا يكون الشعر أحد خيارين إلا وسقط الخيار الآخر، وهذا ما كان له وقع موجع على قلبي في بعض الأحيان.

لم يكن الشعر ليرضى أن يكون له شريك يناصفه قلبي. إن الشعر يترك مساحة كافية في القلب الذي يستوطنه لشخص آخر سواه، مساحة تكفي لزراعة حقول من الزعفران، وفضاء شاسع لملئه بالقناديل، وبحر بلا حد مليء بالأسماك الملونة وحدائق المرجان، لكنه لا يقبل المناصفة بأي حال من الأحوال، ولا تحت أي مبرر.

أعترف بأن الشعر منحني ما لم أجده عند سواه، لكنه في المقابل أخذ مني ما لم يأخذه أحد غيره، أخذ حبيبات سولت لهن غيرتهن، وأوحى لهن غرورهن أن باستطاعتهن أن يناصفن الشعر في قلبي، أو أن يأخذن مكانه.

لطالما آمنت بأن الشعر ليس أحد ممتلكاتي، بل هو بمثابة أجمل وأقرب أصدقائي، له إرادته الحُرة، وخياراته التي لا تتفق بالضرورة مع خياراتي، وهذا ما أعجز دائما عن تفسيره، وبسبب ذلك خسرت أشخاصاً كنت أتمنى ألا أخسرهم، لأنهم اعتقدوا أن محبتي لهم تعني بالضرورة أن الشعر بالمحصلة بعض مكتسباتهم بالتبعية، وأن كل ما عليهم فعله هو أن يأمروه فيطيع.

إن إحدى أصعب إشكاليات الشعر معي هي أن علاقتنا معاً ليست علاقة سيد بتابع، فأنا لا أفضل أن أكون ناظما للشعر أخضعه رغما عنه لمشيئتي، ضاربا عرض الحائط بمشيئته، وعوضاً عن ذلك أحب أن يكون الشعر نديمي عندما أتعاطى خمر الكلمات.