• تدور روايتك الجديدة «جواز سفر» في أجواء القرية المصرية، إلى أي مدى تلهمك القرية في الكتابة؟

- يقول هيمنغواي «كتب عما تعرفه»، وأنا لم أبرح مكاني، منذ ولادتي، وعاصرت كل الرؤساء، بدءاً من جمال عبدالناصر حتى الآن، وعايشت حكايات والدي قبل ثورة 1952، وكانت بلدتي بكراً، لم تفض بكارتها، وكانت في مرحلة مخاض، وتغيير كبير، وقد لاحظت ذلك، وشربت كل التغيرات، وخزنت سلوك أهل قريتي، وحكاياتهم. هذا ما جعلني متمسكاً بالمكوث في قريتي حتى الآن، فالمكان لديّ له رائحة خاصة تخرج مني مرغماً في كل أعمالي، حتى أن كثيراً من النقاد والأصدقاء مازحوني بأنهم يعرفون قريتي بسبب روايتي «أوراق ميت»، كما فعل ماركيز في روايته «مئة عام من العزلة».

Ad

• ماذا عن منطلقاتك في الكتابة، والتي توفرها لك القرية؟

- أكتب عما أعرفه، وعشته، وعاصرته، وسمعت عنه من أمي، وأبي، وأهلي، ومن كبار السن، المستدفئين بحكايات السمر على ضوء القمر، والمنسحقين من عالم ليس عادلاً على الإطلاق، فيتحلقون حول (الركية، أو الكانون، أو جمرات الخشب) يشربون الشاي، ويبلعون حيواتهم المضنية بحب بعضهم البعض، وتكون الألفة، والونس قابس النور، والتحمّل.

كانت الحكايات - حتى الخرافية منها - زاداً للحياة، ومتعتها، وكنت أقارن بين الحكاية والواقع، فأدرك أن الحكاية تخصني وحدي دون غيري، فأضمها إلى صدري الضعيف، وأبحث عن معنى لها، وأمضي إلى غيرها، حتى أدركتُ المخفي من حكايات قريتي، التي هي كل القرى، وكل البلاد، وكل عالمي.

فحينما أود الترحال، أرتحل مع حكاية لم أعشها، فتصيبني رجفة الكتابة، ثم أنسى نفسي في وجع حكايتي، وحكاية كل البشر، وأمسك جمر الكتابة، وأنغمس في لذة الوجع، حتى أتطهر من البغض، أو الحقد، أو الحسد، أو الكراهية، فالكتابة تطهرني فأصبح إنساناً حقيقياً، لا تشغله أنانية البشر، ونوازعهم الشريرة. وفي النهاية أكون نفسي ملتحفاً ببصمتي الخاصة.

هذه القرية التي كانت، أما الآن فهي مسخ، أنظر إليها بعين أخرى، فيجرفني الحنين إلى ما مضي، لكن هذه الفكرة تجعلني مشطوراً بين ما مضي، وبين ما هو آتٍ، وبين الآن.

• «جواز سفر» عنوان يحمل مغزى السفر والرحيل، فهل يغادر بطل روايتك قريته إلى مكان آخر؟

- في رواية «جواز سفر»، قرر البطل الرحيل، بعدما تلقّى السخرية من أبيه، أكثر من مرة، وبعدما سبّ أبوه أمه أمام أهل القرية المجاورة لمقام سيدي أحمد البدوي، وقبل أن يمضي؛ عانقه والده - العناق الأول، والأخير-، ودسّ في جيبه قروشاً قليلة، وقبل أن يخطو الخطوة الأخيرة من عتبة قريته؛ زفّ الشيخ جمعة الأعور البشرى بزفاف أبيه على الست وداد العمشة.

سار متلعثماً بخطواته الثقيلة، والموجعة، ودخل مقام سيدي أحمد البدوي، وتمخط كل ما في سريرته لخادم المقام، الذي دسّ في جيبه قروشاً أكثر من قروش والده، وسافر إلى المدينة التي تحتضن الأبرياء، وحينما دخل المحطة، وبعدما سمع (حمداً لله على السلامة)، أحسّ أنه مبتور، وسار مع أمواج الأجساد، التي تدفعه في كل طريق، يبحث عن بوابة الخروج، وظلّ معلقاً داخل المحطة، محاولاً الخروج، ومتذكراً رحلته، ومحاولاً التعايش؛ فالعودة مُرّة، والرحيل علقم، وهو بين الرحيل والعودة. وهو في هذه الحالة؛ لمح وداد العمشة، لكنها بشكل مختلف، وعصري، واستمرت رحلته ليكتشف العالم، ويكتشف ذاته، فلا فرق بين القرية، والمدينة، وتذكّر أحداث قريته، وأحداث المدينة، وأحوال البلد، وأحوال العالم، وربط بينهما.

في تلك اللحظة؛ أدرك أنه يقاوم القهر، ويبحث عن الحرية بالتمرد، والهروب، ثم أشهر جواز سفره للرحيل الأكيد. إنها رحلة من القرية إلى المدينة، فاتحاً لنفسه أفقاً جديداً، أو محاولاً ذلك، حيث إن الرحلة تكسر التوازن القائم بفعل نزوح جديد، لكنه نزوح من الوطن، أي كسر لحدود الوطن، أو اغتياله بمغادرته، فالعالم الراهن لا يتضمن ما يجعلنا نتمسك به. هذا نزوح اختياري بالدرجة الأولى، ليخلص من عالم فقد الإحساس بما فيه من إدراك، متجهاً إلى هاوية جديدة.

• وظفت الأسطورة في أعمال سابقة مثل روايتك «منامة الشيخ»، هل ثمة تفاصيل مماثلة في رواية «جواز سفر»؟

- الأسطورة هي التأويل المستمر لحكاية ما، لا يحدها الزمن، وتكون رمزاً صالحاً لكل زمن، وكأنها خلود الحكاية. «منامة الشيخ» لم تنهل من الأسطورة، بل استلهمت كل الخرافات التي نصنعها، ونمجدها، وجعلتها صالحة لكل وقت، مثل الأسطورة. هي ضد الزمن. طازجة في كل وقت، كأنها مكتوبة الآن.

ورواية «جواز سفر» تنهل من نفس المنهل، لكنها بشكل عصري، وحداثي، لها من التأويل الكثير، فجواز السفر هو الموافقة على الخروج من الوطن، سواء رحلة إرادية، أو جبرية، أو رحلة لمعرفة الذات أو الآخر. إنها غُربة في الوطن، وغُربة في النفس، والغريب أعمى ولو كان بصيراً. كل منّا يحمل جواز سفره، منا المقيم، ومنا المهاجر. الجميع يبحث عن تحرره من قيود هذا العالم، بلغة عصرية لا تستخدم المجاز الكثير، هذه روايتك، وروايتي، وحكايتي وحكايتك. أنا والآخر معاً نملك جواز سفر. وفي كل زمن يملك البشر جواز سفر حقيقيا، أو روحيا، فالعالم ثابت، ونحن نرتحل بحب، أو معاناة.

13 جائزة مصرية وعربية

حصد ممدوح عبدالستار خلال مشواره الأدبي 13 جائزة مصرية وعربية، أبرزها جائزة سعاد الصباح في القصة القصيرة عام 1988، وجائزة سعاد الصباح في الرواية عام 1989، وجائزة محمد تيمور المسرحية عام 1995، وجائزة الثقافة الجماهيرية في الرواية عام 1996، وجائزة إحسان عبدالقدوس في الرواية عام 2006، وجائزة نادي القصة بالقاهرة في الرواية لعام 2007.