يأتي المساء على الأحياء الحية، تبدأ استعدادات العشاء لدى النساء، أما الرجال فكما هي حال الرجال في معظم دولنا، يتجهون نحو المقاهي المجاورة التي كانت تشكل منتدى واسعاً للحوارات المتشعبة والتي تتقلص في مراحل خوفا من «الحيطان التي لها آذان» أو الآذان المتنقلة، فقد اعتاد الشخص منا أن يكون هناك من يقف عند حافة الكلمة التي ينطقها ويسجل تفاصيل المحادثات خوفا من تلك المؤامرة الكبرى!

يتزاحم الأطفال والنساء وبعض الصبية عند المخابز الشعبية، حيث الخبز الساخن من التنور، حتى مائدة العشاء التي لا تعمر دونه وكثير من الباقلاء «الفول» المسلوق والحمص المعروف لدى أهل الخليج بـ»النخي» أو النخج. وكوب من الشاي مع الحليب وبعض الجبن لدى الميسورين، أما الأسر المحدودة الدخل، وهذا تعبير مستجد على المجتمعات الخليجية، فتكتفي بالخبز والشاي وتبعاتهما دون الجبن.

Ad

عند مدخل الحي تجلس الشلة نفسها تراقب الداخل والخارج، وكأنها توكلت بحراسته من الغرباء رغم أنه لا غرباء بل هو فضول سكان الأحياء الصغيرة، حيث يسعى الجميع لتراكم الأخبار القادمة من البيوت المفتوحة بل المشرعة الأبواب. رغم توافر الأجراس عند الأبواب فإن الجميع اعتادوا أن يدخلوا الدهليز المؤدي إلى الحوش وأن يكرروا اسم من يريد، فهكذا يعلن عن وصول الزوار، أما النساء فقد اعتاد الجميع على دخولهن دون كثير من الإعلان عن الوصول، وكان بعض الرجال يكتفي بتكرار «درب... درب» بمعنى افسحوا الطريق فهناك رجل قادم.

كثير من البساطة كانت تلك الحياة لا يعرف عنها الكثيرون من أجيال اليوم الذين لم يعرفوا سوى ماكدونالدز وموسيقى الراب ولم يعيشوا مساءات الخليج الساكنة في هدوء يبدو كأنه تابع لطقس مقدس عند مساءات الخميس ليلة الجمعة، حيث تبث أغاني أم كلثوم، ولا يمكن لخليجي تلتقيه إلا ويحدثك عن أكثر مقطع أو كوبليه أعجبه في «أنت الحب» أو سيدة خليجية تردد «ما دام تحب بتنكر ليه».

يتفق الجالسون في القهوة على أم كلثوم ويختلفون على عبدالحليم وفريد الأطرش وعبدالوهاب، كل له رأي أن عبدالحليم عاطفي جداً، ويبدو أقرب لذوق البنات أما عبدالوهاب فهو عبقري في الموسيقى والألحان، وكثيرون يقولون لم يكن أحد يعزف العود كما فريد في «أدي الربيع عاد من تاني». هم خليجيون لا يعرفون الربيع إلا من الأغاني لكنهم يدركون أنه فصل ذو طقوس محببة.

لم تكن هناك أجهزة تلفاز في كل بيت، بل لم تكن هناك سوى محطة يتيمة هي «تلفزيون أرامكو» التابع لشركة النفط في السعودية، والذي يبث كثيرا من أفلام رعاة البقر، هكذا تعرف الخليجيون أو اقتحمت هوليودد لياليهم في أحواش بعض البيوت الميسورة، معظمها لتجار كبار، حيث يوضع التلفاز في حوش البيت وتصف الكراسي أو يجلس الكثيرون على الأرض، هناك كثير من «المساند والدواشج» وهي المعروفة بالطراحة والمخدات الكبيرة، وفي كل مساء مسابقة بين الحضور للتنبؤ بمن سينتصر في نهاية الفيلم، أما عند عرض الأفلام العربية القديمة فالمشروبات على المعجب بالممثل أو الممثلة، كانت هي تعشق كمال الشناوي وتجد فيه ممثلاً لا مثيل له فتحسم أمرها وتحضر «سحارة» أي صندوقا من الببسي كولا أو السينالكو لجميع الحضور.

طقوس تلاشت بل انقرضت حتى من الذاكرة المحكية لكثير من الخليجيين، ربما لقلة الاهتمام، ربما للانبهار لما يتصور البعض أنه وصل إليه، ربما لانتشار محدثي النعم، الربمات كثيرة ولكن الأهم أنهم لو عرفوا مذاق تلك المساءات الحالمة لأدركوا كم هم من الخاسرين في أن يعيش المرء لحظة حقيقية بعيداً عن التزييف السريع الانتشار والمجاملات المبنية على المصالح والصفقات التي تصل حتى للزواج، فالمال يتزوج المال ويشتري بعضهم الاسم لأنه محدث نعمة، فيربط ابنته الثرية بما كسب والدها، بابن عائلة ذات اسم عريق.

كل شيء في نقوشات أيامهم تستند وتبنى على أمر واحد (وحدي ومن بعدي الطوفان)، واللحظة هي سيدة الموقف والمساءات تتلبد بدخان السيجار الكوبي الفاخر ورائحة العطورات التي أصبح سعرها أغلى من براميل نفطهم.

نعرف أن كل المجتمعات قد انتقلت للكثير من التغيير، لكن سرعة التغيير في مجتمعات الخليج تبدو أكثر من أن يستوعبها العقل، حتى عقل من يسيطرون على مساراتها، فيكثر التخبط ويعم التشوه تفاصيل الحياة، أين من أيامكم مساءات الخليج الحالمة... أين؟

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية