خروجه من النبع السامي للدستور

Ad

لم يكن المرسوم بقانون رقم 19 لسنة 2012 بشأن حماية الوحدة الوطنية، إلا قانونا للإخاء الإنساني، خرج من هذا النبع السامي، دستور الكويت، أو دستور الإخاء الإنساني الذي سبق عصره، والذي تناولت في مقال الأحد الماضي ما ورد فيه من مواطنة كاملة وتعايش للجميع، سبق بهما وثيقة الأخوة الإنسانية بين الأزهر والكنيسة الكاثوليكية التي انطلقت من الإمارات بأكثر من نصف قرن.

ولئن كان سمو الدستور على غيره من قوانين ونظم وضعية، هو أصل في كل الأنظمة الدستورية المعاصرة في العالم، إلا أن دستور الكويت يتميز ويمتاز عنها جميعا بالسمو في القيم المثالية للإخاء الإنساني التي استوت على عرشه بفكر متفتح على التجارب الإنسانية الأخرى، فأقام الرعيل الأول من أعضاء المجلس التأسيسي من وعيهم الحجر المكين لبنائه الديمقراطي، ومن ضمائرهم السياج المتين والملاذ الأمين لحقوق الإنسان الشاملة للعدل والحرية والمساواة التي اعتبرها الدستور دعامات المجتمع الكويتي.

ومن هذا النبع السامي في الإخاء الإنساني كانت رؤيتهم لكل الناس، فيما نصت عليه المادة (29) من الدستور من أن "الناس سواسية في الكرامة الإنسانية وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة"، وتحظر التمييز بينهم "بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين".

منطلق القانون المساواة بين البشر

وفي هذا السياق حددت المذكرة الإيضاحية لقانون الوحدة الوطنية منطلق المشرع في إقرار هذا القانون وإصداره في أمرين:

1- الإيمان بكرامة الإنسان

وذلك وفقا للأديان كافة فيما أوردته المذكرة الإيضاحية في استهلالها لإيضاحاتها لهذا القانون من أنه ينطلق "من الإيمان بكرامة الإنسان الذي أعزه الله منذ الخليقة، وحقه في حياة كريمة على أسس من الحرية والعدالة والمساواة وتحقيقا للمبادئ الخالدة للدين الإسلامي الحنيف والديانات السماوية الأخرى".

وقد كان هذا المنطلق كذلك استجابة للأمانة التي حمّل بها الدستور في مادته الثانية المشرع الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ما وسعه ذلك قدر الإمكان، والتي اعتبرتها هذه المادة مصدراً من مصادر التشريع.

فالشريعة الإسلامية في أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية تقرر مبدأ المساواة بين الناس جميعا، والإسلام في ذلك لا يعرف التفرقة أو التمييز بين أفراده، في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

ويقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"، ويقول أيضا "الناس سواسية كأسنان المشط"، ولا تقتصر المساواة في الإسلام على الرعية وحدها، بل تشمل آل النبي والولاة، لا تفريق بين شريف ووضيع، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) "لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها".

2- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

حيث تقول المذكرة الإيضاحية للقانون بأن الكويت تقرّ مبادئ الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أن كل أشكال العنصرية هي تحدّ للكرامة الإنسانية، ومن الواجب إدانة جميع ممارساتها والعمل على إزالتها، مع مراعاة ما التزمت به دولة الكويت من اتفاقيات خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ثم تختم إيضاحاتها للقيم المثالية السابقة التي انطلق منها القانون بقولها: لذلك فقد أعد المرسوم بقانون المرافق تحقيقا للمصلحة العامة وتأكيدا للمساواة بين البشر تحقيقا للسلم والأمن المجتمعي وحماية للوحدة الوطنية.

وتضيف المذكرة الإيضاحية لقانون حماية الوحدة الوطنية، أن كل من يحمل الجنسية الكويتية في هذا الوطن يرفض كل أشكال العنصرية، لأنها تشكل انتهاكا لحقوق الإنسان وتهديدا للسلم والأمن الاجتماعي.

وقد خرج قانون حماية الوحدة الوطنية أيضا من رحم المادة (29) من الدستور التي أوردناها في صدر المقال، إلا أن القانون، وفي ضوء التطبيق لمبدأ المساواة، وظهور النعرات القبلية والطائفية بما يهدد السلم والأمن المجتمعي، يضيف صورا أخرى لم يكن للمجتمع على سابق عهد بها، وقد آثرت هذه المادة– حسبما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور– ألا تضيف إلى ذلك صورا أخرى، رغم ورودها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وذلك لأن شبهة التفريق العنصري لا وجود لها في البلاد، فضلا عن كفاية نص هذه المادة في دفع هذه الشبهة.

وأضاف القانون إلى صور التمييز التي جاءت المادة (29) من الدستور بأمثلة لها صورا أخرى، هي الفئوية والطائفية والقبلية والعرق واللون والمذهب الديني والنسب، وليجرم القانون كل صور التمييز سالفة الذكر، إذا اتخذت شكل القيام أو الدعوة أو الحض بأي وسيلة من وسائل التعبير على كراهية أو ازدراء أي فئة من فئات المجتمع، ويعاقب على ذلك بعقوبة تشدد فيها القانون إلى الحبس مدة قد تصل إلى سبع سنوات.

القانون ينفصل عن الظروف التي صاحبته

ولعل ما أثار اللبس لدى البعض في القول بقصر تطبيق هذا القانون على الكويتيين باعتبارهم المقصودين وحدهم بهذه الحماية، على سند من ظروف ومبررات إصداره– حسبما جاء في المذكرة الايضاحية للقانون سالف الذكر- من أن الضرورة التي أملت إصداره بمرسوم في غياب مجلس الأمة، ما كشف عنه التطبيق، لاسيما أثناء حملات الدعاية الانتخابية والخشية من أن يصاحب الانتخابات العامة القادمة تفشي النعرات الطائفية والقبلية أحيانا والتي تضر بالوحدة الوطنية، الأمر الذي يوجب الإسراع في مواجهتها بصورة حاسمة.

إلا أن هذه الظروف ليس من شأنها أن تخصص من عموم الأحكام التي وردت فيه أو تقيد من إطلاقها، لأن القانون ينفصل عن الظروف التي صدر فيها، وقد طبق في إنكلترا قانون بعد مئتي عام من صدوره، فأحكام أي قانون هي أحكام عامة ومجردة، عامة بمعنى أنها تنطبق على جميع من يتوجه إليهم خطابها من أشخاص وحالات ووقائع متغيرة بتغير الزمان، ومجردة بمعنى أنه لا يطبق حصرا على الوقائع التي كانت من موجبات صدوره، بل يتجرد منها تماما ليطبق على من تتوافر فيهم موجبات التطبيق طبقا للأحكام الواردة فيه.

وهذا الخطأ في قصر تطبيق القانون على تلك الظروف الفئوية والقبلية التي يُخشى منها على الانتخابات القادمة يرجع إلى نظرة خاطئة من هذا البعض إلى تحديد مفهوم حماية الوحدة الوطنية، وإلى تعريف المجتمع فيما نصت عليه المادة الأولى من هذا القانون من حمايته من أي كراهية أو ازدراء لأي فئة من فئاته.