لا تزال مدينة البصرة تشهد تظاهرات متفرقة منذ اندلاعها في يوليو 2018، وفي حين شدّد عدد كبير من المتظاهرين على استمرار النقص في البنية التحتية في جنوب العراق، بيّنت الشعارات المناهضة لإيران والهجمات على القنصلية الإيرانية الضوء على الإحباط إزاء النفوذ الإيراني في المنطقة أيضا.

ويبرز النفوذ الإيراني جليا بالنسبة إلى هؤلاء المتظاهرين، وخصوصا في الاعتداءات التي تنفذها الميليشيات العراقية المدعومة من إيران ضد المتظاهرين، وتسلّط هذه الاعتداءات الضوء على العلاقة المعقدة التي تجمع بين الميليشيات القوية في العراق التي تجنّد عناصرها من جنوب العراق بشكل أساسي من جهة، وبين الجنوب نفسه من جهة أخرى.

Ad

وقد باتت الميليشيات أمراً واقعاً في العراق بعد عام 2003، إذ برزت فيه ميليشيات عدة ومنها «جيش المهدي» و«كتائب حزب الله» التي حاربت القوات الأميركية خلال غزو الولايات المتحدة للعراق، وإنّ صعود مقتدى الصدر من منصب قائد «جيش المهدي» إلى قائد المعارضة السياسية إلى رئيس الكتلة السياسية الأكبر في الانتخابات العراقية الأخيرة خيرُ مثال على النفوذ الذي ما زالت تتمتع به الميليشيات في الحياة اليومية في العراق.

إلا أن هذه الميليشيات منخرطةٌ أيضا في ديناميات إقليمية أوسع، فقد حارب كل من «منظمة بدر» الضخمة و»عصائب أهل الحق»، التي كانت تتبع «جيش المهدي» في الماضي وأصبحت مستقلة في سورية دعما لنظام بشار الأسد.

وقد عززت الميليشيات قوتها وأحكمت سيطرتها في العراق بشكل خاص منذ استحواذ تنظيم «الدولة الإسلامية» على الموصل عام 2014 وانهيار الجيش العراقي، فبعد سقوط مدينة الموصل في يد تنظيم «الدولة الإسلامية» في يونيو 2014، دعا آية الله العظمى السيد علي السيستاني المتطوعين إلى حمل السلاح والمشاركة في الجهاد المسلح ضد التنظيم، مما عزز الألفة بين الميليشيات والمدنيين بشكل كبير في الجنوب.

وإنّ قوة هذه الميليشيات النسبية بالمقارنة مع جيش الحكومة الفدرالية دفعت الحكومة العراقية في النهاية إلى شرعنة «قوات الحشد الشعبي» عام 2016، إلا أنه في هذا الوقت، عمدت إيران إلى تزويد «قوات الحشد الشعبي» بموارد مالية كبيرة وبالأسلحة الثقيلة، كما أن القادة الإيرانيين قد انضموا إلى عدد من ميليشيات «قوات الحشد الشعبي» لمساعدتها في محاربة قوات «الدولة الإسلامية» واكتساب المزيد من النفوذ في رسم مستقبل المشهد السياسي الداخلي في العراق.

وقال نائب رئيس هيئة «قوات الحشد الشعبي» المدعومة من إيران أبو مهدي المهندس إن إيران قدّمت ميزانية عالية دعما لـ»قوات الحشد الشعبي» وإن العراق أرسل آلاف الشباب إلى إيران لكي يخضعوا للتدريب على الأسلحة ويعودوا إلى العراق لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، في حين أرسلت إيران آلاف المقاتلين العراقيين إلى سورية عام 2012 لحماية الأماكن المقدسة الشيعية فيها ومحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». أما قائد «منظمة بدر» هادي العامري فيستخدم هذه الأمثلة أمام وسائل الإعلام بشكل مستمر ليبرهن أن إيران قد أدت دورا أساسيا في العراق إلى جانب «قوات الحشد الشعبي» في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وذلك لتسليط الضوء على حسن نية إيران تجاه العراق. إلا أنه من الواضح أن إيران مهتمة بالسيطرة الشاملة على العراق من خلال السياسيين الوكلاء لها في الحكومة العراقية.

ورغم القوة التي تتمتع بها، تجمع الميليشيات المختلفة علاقاتٌ متفاوتة للغاية بمختلف فئات المدنيين العراقيين، فعلى سبيل المثال، تعاني «منظمة بدر»– وهي الميليشيا الأكبر وربما الأكثر شهرة في العراق– التي تأسست على يد آية الله السيد محمد باقر الحكيم ويقودها اليوم هادي العامري، من سمعةٍ رديئة في صفوف الشعب العراقي، وبالإضافة إلى التقارير المحلية عن قيام ميليشيات خارجة عن مظلة «قوات الحشد الشعبي» بقتل ثلاث نساء مسيحيات كنّ يعملن في مطار البصرة الدولي عام 2005، تم استهداف رجل مسيحي وقتله عام 2016 أيضا بسبب بيعه النبيذ بعد حظر الكحول الذي فرضه البرلمان العراقي. وفي هذا الوقت، أدّى تهريب المخدرات عبر الحدود الإيرانية-العراقية إلى إدمان عدد من الشباب العراقيين عليها.

إلا أن عددا كبيرا من الشباب ينضمون إلى الميليشيات بسبب نقص السلطة وضعف الخدمات الأمنية في العراق. فغالبا ما ينضم الشباب إلى ميليشيات على غرار «منظمة بدر» للحصول على الدعم عندما يواجهون تحديات شخصية، بالإضافة إلى ذلك يحق لعناصر الميليشيات حمل السلاح، وهو علامة فخر لعدد كبير من الشباب العراقيين، كما أن الميليشيات تستغل الجهل فتجنّد أشخاصا غير مثقفين ليحاربوا ويدافعوا عن مقراتها.

وبعيدا عن محاولات إيران التأثير على الانتخابات البرلمانية لعام 2018، كان لإيران تأثير ملحوظ على التشكيلة السكانية في جنوب العراق، إذ أججت التوترات الطائفية وسهّلت تهجير الأقليات الدينية إلى شمال العراق أو إلى خارج البلاد، وقد عمدت الميليشيات في الأشهر الأخيرة إلى اعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين الذين أضرموا النار في مقر القنصلية الإيرانية في البصرة، كما أرغمت بعض الميليشيات القوات العراقية على اعتقال عدد من الناشطين والصحافيين.

وقد اتهمت الميليشيات في هذه الحالات المتظاهرين والناشطين بالارتباط بالولايات المتحدة، ومن بين المتّهمين مديرة إحدى المنظمات غير الحكومية المحلية «جمعية الفردوس العراقية» فاطمة البهادلي والناشطة في مجال حقوق المرأة رهام يعقوب، وتجدر الإشارة إلى أن هاتين الناشطتين تتلقيان التهديدات يوميا بسبب هذه الاتهامات.

حتى أن الضغوط التي تمارسها قوات الميليشيات قد أرغمت بعض المتظاهرين البصراويين على الهرب إلى تركيا للحفاظ على سلامتهم، ويشكّل محمد جواد خير مثال، فقد حمل خلال تظاهرات البصرة صورة لميا خليفة، وهي ممثلة إباحية لبنانية معروفة، ليسخر من «شرف» الحكومة المحلية من خلال المقارنة مع طبيعة عمل هذه الممثلة. وبعد تعرّضه لعدد من التهديدات، انتقل جواد للعيش في اسطنبول، وهرب المتظاهران محمد قاسم وحيدر ليث– اللذان أجرى الكاتب مقابلة معهما في البصرة وتركيا– إلى محافظة بولو شمال تركيا بعد التعرض لتهديدات لفظية.

وينظر عدد كبير من المتظاهرين في البصرة اليوم إلى عناصر الميليشيات كخطر على حياتهم، وليس بصورة أبطال الحرب على «الدولة الإسلامية» التي تسعى قيادتهم إلى إبرازهم بها، إلا أن قوتهم تبقى متمركزة في الجنوب، ويبدو أنه من المرجح أن تستمر في المستقبل القريب.

أزهر الربيعي