"سمراويت" للكاتب الموريتاني حجي جابر، الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي 2012، أول رواية أقرأها لكاتب موريتاني، وكان دافعي لقراءتها اكتشاف معالم وبواطن هذا البلد، الذي أجهله تماما، ولعل هذه الرواية السيبرية قد كشفت وبينت الكثير من تاريخها وواقعها السياسي والحضاري والجغرافي وعادات وتقاليد أُناسها، الرواية تقدم القارئ إلى مدينة لا يعرفها، ويسمع عنها فقط كمكان جاء منه الإفريقيون.

كشفت معاناة الإريتريين بمدينة جدة السعودية، من بعد التطورات التي حدثت عليها، واستجدت على أثرها التفريق بالمعاملة بين السعوديين والإريتريين، وصعبت ظروف الحياة عليهم بعد أن باتوا بحساب الغرباء الوافدين عن مواطنيها، وباتت إقامتهم غير مريحة وغير محببة، وبات حي النزلة بجدة، وهو حي خاص بالأحباش، يلم حزنهم وغربتهم: "لم تكن جدة" مكانا والسلام "يلم شعث تشردنا بعد أن انتقلت إريتريا من الجغرافيا إلى حواف الذاكرة، لم تكن هذه المدينة موطن آخرين يسبغون علينا الفضل حين يبقوننا في أطرافها النائية، كنا ناسها الذين يشبهونها حد التطابق... شكلك جداوي، كثيرا ما سمعت هذه الملاحظة بمجرد أن أنطق، لم تكن جدة لتحتاج أكثر حتى تتبدى في لغتي وفي نبرة صوتي بل وفي ابتسامتي.

Ad

قد يبدو هذا طبيعيا لمن لا يعرف النزلة، لمن لا يعرف جدة، أمعنت جدة في القسوة على أبنائها، حولتهم إلى مجرد أجانب، هذه الكلمة التي أعادت رسم خطوط الطول والعرض حول كل مقيم، بحيث أدرك بعد كل هذا العمر أنه لم يكن سوى أجنبي طارئ، أجنبي تتقزم آماله حتى تنحصر بحياة عادية لا مكان فيها للمفاجآت بنوعيها السار ونقيضه".

رواية تقدمك لمدينة لا تعرفها، تسمع عنها كثيرا، وربما تتعرف على بعض مواطنيها، لكنك لا تدرك حجم معاناة المهاجرين والظروف القاسية التي دفعتهم للهجرة عن أوطانهم، والصعوبات القاسية التي يتلقونها في عبورهم لمدن أخرى تمنحهم حق العيش بسلام بعيدا عن الحروب الطاحنة بأوطانهم.

الراوي يتنقل بين مشاهد حياته في مدينة جدة، التي ولد وترعرع فيها، وأمضى صباه وشبابه وعمله كصاحفي في الجريدة، والتي فجأة أشعرته أنه ليس جداويا، ولكنه إريتري إفريقي، ومدينة مودرنا الإريترية، ومن هذا المنطق يعود إلى إريتريا في رحلة للبحث عن الجذور وعن بيت الجدود المهجور إبان الحرب التي انتهت بتدمير النفوس، واكتشافاته لوطنه الممزق بين الحركات السياسية الوطنية التحررية: "هل جربت البرد حين يستوطن الروح؟

لا تقولي لا، فتلك مصيبة أخرى، بقدر ما هو مؤلم أن يسكننا البرد، مؤلم أيضا ألا يكون قد مر بنا.

عدة مشاعر تختلط دون أن تخرج بلون يمكن الاهتداء إليه. أسافر إلى منبت أجدادي، إلى البحر الذي عشنا عمرا على ضفته الأخرى بانتظار ساعة العودة إلى الضفة الأم. تحتشد في رأسي حكايات جدتي عن باصع التي لا يفوق جمالها شيء، عن ختمية، حينا الذي تحمل تربته حدائق الذكريات، عن قطان قبي سقالة، الجسر الذي يقطع البحر ليربط طرفي مصوع. عبء ثقيل أن تسافر وأنت محمل بكل هذا القدر من ذكريات الآخرين المعتقة، من همومهم وأمانيهم، من أحلامهم التي تحققت، وتلك التي طال انتظارها".

هذه رواية سيرة أكثر من أنها رواية سرد متخيل، فقد جاءت بحياة الإريتريين بمدينة جدة في السعودية التي نزح جدودهم وآباؤهم إليها إبان الحروب التحررية الطويلة التي طالت بلادهم، وتناولت بشكل تقريري الجزء الخاص بقصة نضالهم حتى نيلهم حريتهم وتحرر بلادهم، والصعوبات التي يتواجهون معها بعد اختلال التوازن العقائدي والفكري بين الفصائل المتحاربة.

رواية تستحق جائزتها، فقد كشفت وقدمت صورة لحياة المهاجرين وعذاباتهم في الدول التي تستضيفهم، والتي أحيانا لا تحسن معاملتهم أو تفرق بالمعاملة بينهم وبين مواطنيها، وهذا حق لها لا جدال فيه، لكن تبقى هناك عذابات أُناس والآلام غربتهم الصعبة.

الرواية كشفت عن جوانب في الحياة بمدينة جدة غير معروفة، مثل حي الأحباش، والحفلات الراقصة الصاخبة في الشاليه البحرية، والرشاوى التي يدفعها المهاجرون الإريتريون لسفارتهم لاستخراج جوازات سفرهم.

"بلدي... ليس سهلا أن تبدأ متأخرا جدا في اكتشاف لغتك الأم، في المرور على مفرداتها دون التعثر بالتأتأة، ليس سهلا أن تجعل الأمور تبدو عادية جدا وأنت تلتقط أحرفك الجديدة من قاع الحريق".