عادت إلى الواجهة مجدداً أزمة مستأجري سوق المباركية التراثي بعدما نفذوا الجمعة الماضي إضراباً في السوق على خلفية رفع أسعار الإيجارات إلى مستويات قياسية ناهزت 1000 في المئة من قيمة الإيجارات السابقة!

ما بات يُعرف بـ "أزمة سوق المباركية" ليس وليد اللحظة بل يرجع إلى قبل عامين أي 2017، عندما نشبت الأزمة بين المستأجرين والشركة المديرة للسوق وفقاً لنظام الـ bot، وساهم وقتها التدخل الحكومي في تأجيل اندلاع الأزمة بوعود تتعلق بإيجاد حل يرضي الطرفين، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

Ad

ورغم أن الأزمة تعتبر صغيرة مقارنة بحجم الاقتصاد، فإنها تصلح لأن تقدم نموذجاً على أكثر من صعيد، أولها انحراف الخصخصة السيئة التنفيذ عن أهدافها، وثانيها الأثر السلبي لعقود "الباطن" على قيمة الإيجارات، وبالتالي الأسعار وتضخمها، أما ثالثها فيرتبط بقيمة الوقت لدى الإدارة العامة واعتمادها على التسويف والتأجيل في مواجهة أي أزمة مهما كانت محدودة ويمكن معالجتها سريعاً.

سوء التنفيذ

فالخصخصة السيئة التنفيذ لسوق تراثي على غرار المباركية تطرح أكثر من تساؤل عن قدرة الدولة وفهمها للتعامل مع مشاريع خصخصة ضخمة كالكهرباء والتعليم والصحة والبنية التحتية والخدمات، حتى بعض أوجه عمليات القطاع النفطي، مع أن الخصخصة في "المباركية" لم ترتبط بالأصول والملكية التي لا تزال مصنفة كأملاك دولة، بل اختصت فقط بجانب إدارة المشروع الذي لم يراع طبيعة السوق الشعبي وبضائعه الرخيصة وإيرادات محلاته المحدودة، ومن ثم صعوبة رفع الإيجارات على المستثمرين فيه، فضلاً عن تركيز الجهة الحكومية، وهي هيئة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، على تحصيل أعلى العوائد المالية دون أن يقابل ذلك التزام بجودة الخدمة والمحافظة على تراثية المنطقة وعدم اندثارها، وهو ما بات لافتاً في السنوات الماضية من حيث تغلغل مطاعم ومقاهٍ حديثة لا تناسب هوية السوق التراثي.

ولعله من المفيد القول إن جميع دول الخليج ومعظم دول العالم لديها من الأسواق التراثية القديمة التي تدار بشكل يحفظ خصوصية السوق والمدينة، ويقدم الهوية على الربح، دون أن تكون هناك أزمة، إلا في الكويت التي يتسبب سوء التنفيذ بها في حدوث مشكلات ما كان من المفترض أن تحدث أصلاً.

سلسلة «الباطن»

في عقود محلات سوق المباركية ثمة انحراف آخر يمكن تعميمه على معظم عقود المستأجرين لأملاك الدولة، وهو ما يُعرف بعقود الباطن، أي سلسلة العقود الإيجارية غير المباشرة بين المالك أو مطور المشروع مع المشغل الفعلي، الأمر الذي يترتب عليه كلف غير مبررة على الإيجارات تنعكس مباشرة على الأسعار، وبالتالي تضر المستهلكين، كما أنها تضر الدولة كمحصل لقيمة متدنية جداً من الإيجار؛ يمكن أن ترفعها بشكل معقول لو كان تعاملها المالي فعلاً مع المشغل النهائي، وهذا تشوه لافت في السوق ينبغي معالجته، لأنه يمثل انحرافاً في جهود مكافحة الاحتكار، فضلاً عن انعكاسه سلباً على العديد من الفرص الاستثمارية التي من المفترض توفيرها للشباب الكويتيين في سوق المباركية أو غيره من الأسواق والأراضي المتاحة للاستثمار، وخصوصاً أن بعض الأنشطة في السوق يستهلك الإيجار فيها نحو نصف المصروفات الشهرية للمستثمر.

عامل الوقت

لا شك أن إهمال مسألة سوق المباركية نحو عامين حتى تصاعدها الأسبوع الماضي يشير إلى انخفاض قيمة الوقت لدى الإدارة الحكومية والاعتماد على التأجيل والتسويف والتخلي عن المسؤولية حتى الوعود بحل أو تجاوز الأزمة، وهنا لا يمكن طرح تساؤلات أكثر عن كيفية التعاطي مع أزمات متوقعة على أكثر من صعيد لو تكرر هذا الدور الحكومي السلبي بعد خصخصة خدمات وشركات حكومية ذات علاقة مباشرة بالمجتمع، وخصوصاً أن معظم الأفكار والنقاشات حول الخصخصة مرتبطة بمسائل الملكية وقيمتها وآثارها المالية، ولا تتحدث مثلا عن فرص العمل داخل القطاع المخصص أو جودة الخدمة أو طبيعة الكيان كما حدث في "المباركية".

في سوق المباركية تعددت العيوب قياساً بصغر حجم الأزمة، وانكشف العديد منها في فهم الخصخصة وعقود التأجير وكيفية المعالجة، ولعله من المهم أن نستوعب أن الخصخصة لا تعني غياب الدولة عن دورها في تنظيم السوق، واختصاصاتها كجهة إشراف ورقابة، فضلاً عن تنظيم التنافس، وضمان حق المستهلك والعمالة وجودة الخدمة، وهي أمور قد يكون من المقبول الانحراف عنها في سوق تراثي صغير، لكنها ستتحول إلى أزمة عميقة إذا ارتبطت بقطاعات أكبر.