الحديث عن موت الديمقراطيات الغربية كان موضوعاً للكثير من المناقشات الأكاديمية أو الفكرية أو السياسية، التي تسنى لي حضور بعضها، فلدي في هذا الموضوع إسهامات ومتابعات، وخصوصاً في كم المتناقضات الخاصة بدرجة الالتزام، أو عدمه، إن شئت، في مسألة حقوق الإنسان، وهي واضحة للعيان، لا تحتاج إلى المزيد من التبيان.

مؤشر الديمقراطية "إي آي يو" الأخير، أوضح تراجعاً ملحوظاً في العديد من الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، كما لاحظ نكوصاً علنياً في التعثر الديمقراطي، وصعوداً كبيراً في التيارات الشعبوية ذات النزعة الانغلاقية العنصرية، لكن هل يعني ذلك موتها؟ الأهم من المؤشر هو ازدياد القلق المنهجي، والتخوف العلمي الرصين، من ارتدادات سياسية مؤثرة، حيث صدر ما يزيد على 22 كتاباً وعشرات الدراسات والأوراق، خلال السنوات الأخيرة، ومثلها من الحلقات النقاشية والمؤتمرات، لمناقشة إلى أي درجة ستصمد الديمقراطية في الغرب، فهي ليست ملاحظات عابرة على قارعة الطريق، بل من باحثين جادين قضوا جل حياتهم في بحث أنظمة الحكم والتحولات الديمقراطية. كان آخر تلك الكتب عنوان "كيف تموت الديمقراطيات؟" للأكاديميين ستيفن ليفتسكي ودانييل زيبلات، من كلية كينيدي بجامعة هارفارد الأميركية. ومع أن الهاجس الذي بعثهما لإصدار الكتاب كان القلق على مصير الديمقراطية في أميركا، إلا أن ليفتسكي المتخصص في صعود وأفول الديمقراطية في أميركا اللاتينية، وزيبلات المتخصص في الديمقراطية بأوروبا ربطا التاريخ بالتطور السياسي للتحولات الكبرى، وركزا على أحداث انحسار الديمقراطية بأوروبا في الثلاثينيات، وظهور الفكر الشمولي الهادم للديمقراطية، كالنازية والفاشية والفرانكوية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. ويتوصل الباحثان إلى أن هدم الديمقراطية لن يكون من خارجها، بل سيأتي من نواب منتخبين يتصرفون برعونة، للقضاء على المشاركة والعدالة والمساواة، كما طرحا جملة من الآراء والأفكار لكيفية التصدي لذلك الانحسار والضمور الديمقراطي.

Ad

لم تكن الحرب العالمية الثانية انتصاراً للديمقراطية على الفاشية والنازية، وهذه من عندي، لكنها كانت صراعاً بين تحالف ضم دولاً ومجتمعات كالاتحاد السوفياتي على سبيل المثال، وهي تلك الحرب التي كانت قد أسست للمنطق القادم الذي انتهى بتفكك الاتحاد السوفياتي لاحقاً في أواخر الثمانينيات وخروج 15 دولة جديدة من رحمه، فهل تأسست نماذج ديمقراطية قادرة على كسر جماح التسلط؟ أم مازال العالم يترنح بين حالة المتناقضات، بين فكر ديمقراطي في العلن ونقيضه في السر؟ وبين السعي لتأصيل مفاهيم الحكم الرشيد وسيادة القانون والعدالة واحترام كرامة الإنسان داخل الغرب، وهي في مراحل التكون والتشكل على أي حال، وبين تناقض صارخ في السلوك الخارجي بدول العالم الأخرى؟ لا توجد إجابة سريعة على هذه التساؤلات، لكن الوضع المتناقض والملتبس عالمياً موجود ومستمر، ومع أنه لا يبدو أن الديمقراطية ليست في طريقها للموت، لأنه لا يوجد بديل منطقي لها حتى الآن، إلا أن القلق يصبح أمراً مشروعاً.

لسان حال دولنا العربية هو لا داعي للقلق، فالديمقراطية ليست لنا ولا عندنا، فليقلقوا هم، أما نحن فرؤوسنا مرفوعة وأبصارنا شاخصة وأقدامنا راسخة، كما سنرى.