لم يساهم خطاب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الشديد اللهجة في القاهرة في الحادي عشر من يناير في توضيح المعمعة المتواصلة في السياسة الأميركية تجاه سورية، فمنذ تولي إدارة ترامب زمام السلطة شهدنا عدة تبدلات على الأقل في اتجاه هذه السياسة:

أولاً، أدلى وزير الخارجية آنذاك ريكس تيليرسون خطاباً دعا فيه إلى الحفاظ على وجود أميركي قوي في سورية بغية تأسيس "دولة سورية مستقرة وموحدة ومستقلة" تترأسها قيادة ما بعد الأسد، وإنزال الهزيمة بداعش، والحد من النفوذ الإيراني. ظلت هذه السياسة المتبعة، على ما يبدو، إلى أن أعلن ترامب فجأة خططاً لسحب الجنود من شمال سورية.

Ad

إذا لم تشعر أوروبا بالقلق فلا بد من أن تقلق، ولا يمكن للقوات الأوروبية الوطنية أو حتى مبادرة الجيش الأوروبي، التي تحظى بتهليل كبير، سد انسحاب جزء صغير من الوجود العسكري الأميركي الكبير في الشرق الأوسط وحدها، كذلك تعجز عن أن تعوّض عن الالتزامات الأمنية الأميركية الشاملة القائمة منذ عقود، لكن الخلاف لا يقتصر على الوجود والقدرات العسكرية، فطوال سنوات، حتى قبل غزو العراق في عام 2003، نشب خلاف بين أوروبا والولايات المتحدة حول مسائل أساسية عدة في الشرق الأوسط، ولعل أبرزها السياسة تجاه إيران، ففي حين أعربت الولايات المتحدة عن عدائيتها علانية تجاه الجمهورية الإسلامية، بدت أوروبا أكثر ليونة مع تمتع فرنسا بعلاقات دبلوماسية ودية نسبياً بإيران عززتها التجارة.

ثانياً، تبدو البرلمانات الأوروبية مترددة في دعم العمليات الأمنية في الخارج ما لم تتعرض أراضيها لخطر حقيقي مباشر، صحيح أن فرنسا، بدعمها التاريخي لعمليات الفيلق الإفريقي والأجنبي التاريخية، تشكّل استثناء، ولكن من المستبعد أن يعتمد الإسرائيليون والعرب على البوندستاغ الألماني، والبرلمان الإيطالي، أو الفولكتنغ الدنماركي، حتى خلال الأزمات.

أخيراً تختلف أوروبا عن الولايات المتحدة، فرغم كل الكلام عن "مقاربات شاملة"، قليلة الدول في أوروبا التي تستطيع تأمين المتطلبات غير العسكرية للحلول خلال الصراع أو بعده، بغض النظر عن مدى قوتها في مجالات حكم القانون، والمساعدات الإنسانية، والمصالحة.

رغم الانتقادات المشروعة غالباً والتي تُوَجه لأعمال الولايات المتحدة، ودوافعها، ونتائجها، يغدو الشرق الأوسط بيئة مختلفة جداً من دون الهيمنة الأميركية، إذ يُضطر العرب عندئذٍ إلى تطوير مقدراتهم الخاصة، أو الأكثر احتمالاً، واللجوء إلى قوات مهيمنة أخرى، كالروس، أو الإيرانيين، أو الأتراك، أو الصينيين، أو سيطرة مشتركة بينها كلها. لكن الأكيد في هذه الحالة أن هذه القوى ستشكّل كلها لاعبين أساسيين، لاعبين يدخلون الشرق الأوسط ليبقوا فيه. من الضروري النظر إلى نفوذ الصين المتنامي من خلال التجارة والاستثمار غير العسكريين في الشرق الأوسط من المنظار عينه كالخطر العسكري الذي يشكّله الروس والخطر العقائدي الذي يمثله الإيرانيون.

تتمحور هذه المسألة خصوصاً حول النفوذ على الأمد القريب والبعيد، وفي حين يبقى الأميركيون مركِّزين على الخطر العسكري الصيني في بحر الصين الجنوبي، يذكر زميل يتمتع بخبرة واسعة في منطقة الشرق الأوسط: "لا تستطيع اليوم التلويح بقط ميت من دون أن تصدم رجل أعمال صينياً". رغم ذلك، قد تؤدي أوروبا دوراً، إذا رغبت في ذلك، وقد يشكل الجيش جزءاً من هذا الدور، صحيح أن أوروبا تفتقر إلى القدرة المالية وربما الإرادة لتتدخل عسكرياً وحدها، إلا أن الجيوش الأوروبية تتمتع بمزايا نوعية تتفوق فيها على الولايات المتحدة وتسمح للدول الأوروبية بأن تبقى ملائمة في تلك المنطقة. يقر الجيش الأميركي بحد ذاته أن الأوروبيين يملكون قوات خاصة عالية الكفاءة تتعارض قدرتها على تنفيذ "عمليات موزونة بدقة تكون عادةً صغيرة إنما فتاكة" مع مقاربة "العقاب الكبير" الأميركية.

كما كتب مايكل شوركين في عام 2015، "في حين يميل الجيش الأميركي إلى مقاربة (اضرب بقوة أو ارحل) في الحرب... يعتمد الجيش الفرنسي مقاربة (العمل على نطاق صغير)، فيسعى هذا الأخير إلى الكفاءة ويأمل أن يحقق أهدافاً محدودة من خلال ممارسته معيار القوة الأدنى قدر الإمكان أو ما يدعوه (المعيار الصحيح)، أي المعيار الكافي لإنجاز المهمة لا أكثر".

* تانيا غودسوزيان

*«ناشيونال إنترست»