"مرايا ساحلية"... سيرة مبكرة للسوداني أمير تاج السر، الكاتب والطبيب، الذي اتضح لي سر غزارة إنتاجه الروائي، بعدما قرأت سيرته في "مرايا ساحلية"، التي كشفت عن هذا المنبع العميق الفياض بقصصه وحكاياته وأساطيره وخرافاته وثراء تراثه وعجائبه وغموض أسراره وشطحات شخصياته ونداهات مجاذيبه، عالم يفور ويمور بمولدات الحكايات، التي ممكن أن تُغرف من كثرتها "بالشوالات والخياش والقفف"، وأقصد بهذا المنبع العظيم دولة السودان، المحرك والباعث والحارث لملكة هذه الموهبة، المحرك لمخيلة كاتب قدير مثل أمير تاج السر الذي له حظ كبير من اسمه، فهو بالفعل امتلك مفاتيح كنوز السر كلها لهذا السودان وعجائبه وغرائبه، فلا عجب أن يأتينا بكل فيض هذه الكتابات الساحرة التي غرفها بسهولة من قارعة الطريق، واقتنصها بشبكة إحساسه الذكي اليقظ، وبعينين فنيتين امتصتا كل حركة الصور، وعقل أدرك وحلل المعاني المختبئة بتلافيف المشاهد الحية الدائرة بموقعه.

أمير تاج السر امتلك ذاكرة إسفنجية رهيفة حساسة امتصت كل عوالم طفولتها وصباها وشبابها، حتى امتلأت تماما، وفاضت على حوافها بسيل الإبداع الجارف معه سيرة وحكايات مدينة بماضيها وذاكرتها وأُناسها وبحرها وموانيها، وكل حجر زاوية فيها، كلها أتت وحضرت بروايات استعادتها كما كانت، حتى وإن لم تعد كما كانت عليه، ولم يعد لها وجود مثلما كان ماضيها إلا في روايات أمير تاج السر، الذي جاء بها وبكل حذافيرها، رسم شخصياتها بدقة رسام ماهر ونحتها من لحم ودم، نقل حركة الشارع وطبيعة الحياة فيه بصور حية متحركة لعالم السودان البعيد عنا والذي لا نعرفه، قدم شخصيات غريبة مجنونة "خوته"، تمارس طقوساً لتصرفات وعادات غريبة، كل واحدة منها تصلح أن يشتغل عليها برواية، لذا كثرت روايات المؤلف الناهلة من هذا المنبع الغزير المكتظ بالحكايات العجائبية الغريبة للسودان وأساطيره.

Ad

من أين أتت كل هذه الشخصيات التي هي من لحم ودم لتنافس الخيال بمهنته؟

وحده الكاتب القدير يستطيع أن يمتص ويتغذى من عمق وتعدد وتنوع وثراء واقعه، ليعيد صياغته بالرؤية الفنية العميقة والشكل الأدبي المناسب لسكب وتشكيل كتابته.

"مرايا ساحلية"... شكل آخر لكتابة السيرة التي جاءت كسيرة للكاتب وسيرة لمدينته مجتمعة به ومنفصلة عنه بشكلها الخاص بها، من خلال كاميرا سينمائية تجولت وتنقلت بكل حرية وعفوية ما بين أحياء المدنية وساحلها، حياً حياً وزنقة زنقة، والأسواق بكل مشاهدها وتنوعاتها وأدوارها من السوق الكبير وسوق الدلالة ومتنوعات للبيع مختلفة، وملاعب الأثرياء والفقراء وشكل المباني التي تخص الطرفين وشهيق تباينها، والحركة بساحة المولد وساحة الرياضة وحي السكة الحديد، والشيوخ والشباب وشيطنة الصبيان والمراهقين، وأنات مرضى المستشفيات.

الكاميرا صحبتني برفقتها، وتجولت بي بكل شبر في المدينة، حتى كأنني رأيت المكان، بل عشت مع من فيه، أو كما قال الكاتب "دخلنا بغضاريف أهل البيت، أكلهم وشربهم، ووئامهم"، ومن هنا تتجلى قدرة المؤلف في نحت شخصياته ونبض حياتهم وتجلي أمكنتهم.

"كان أبناء قبائل "البجة" المحلية هم ضرع تلك الحركة، يسقونها بلا توقف. وهم مضاعفات تلك الحركة أيضا، تضربهم الشمس، وتذوبهم الرطوبة، وتنكسر رؤوسهم بشحنات تطيش أحيانا من "كرينات الشحن"، كانوا يعملون بتلذذ، يغنون بهمجية راطنة، ويشاغبون سكر البحارة بسكر الضحك. لقد جثم الميناء على أرضهم مستعمراً شبقاً، وجدهم سمراً، وأميين، وذوي صبر واشتهاء، رسخ من سمرتهم وأميتهم أكثر، احتال على صبرهم، وأمدهم بملاليم الاشتهاء، يبصقون بها في حي العرب القبائلي مبتهجين. كانت أزياؤهم رطانية، أسماؤهم رطانية، أطفالهم يكبرون بجلد البيئة، وتسريحة "القمبور"، وحريمهم يرتدين "الفرك" الملونة، ويتعطرن من عطر "الشاكوين" الذي كان لخبطة محلية تصنع في البيوت، وتذوي في البيوت، كانت "الشلوخ" رفيقة لوجوههم، الخناجر تلازم تنقلهم، وصنادل المشي المصنوعة من إطارات العربات، تستر أرجلهم المشققة".

هذا وصف لواحدة من القبائل الموجودة في السودان، والسيرة تروي طبيعة كل قبيلة منهم وطريقة تعاملها، إلى جانب وجود مواطنين "تسودنوا" مثل الهنود والحضارمة، امتلكوا الطبيعة السودانية مثل "راجا" الهندي كهربائي ذاك السوق بلا منازع، مسبسب الشعر وأنيق وكثيف الحواجب، يتكلم العربية المترنحة، ويبيع حلوى النارجيل والسمسم المحمص، وهناك أيضا نساء التكارنة يعملن كبائعات للفول المدمس، ولب القرع والبطيخ، وثمر الدوم، ولحم "الزرمباق"، وخليط من البشر خلقوا غرابة وطرافة وسحر المدينة.