عندما وصف ترامب سورية ببلد "الرمال والموت" الخالي من "الثروات الكبيرة"، كان حرياً به أن يراجع ملاحظاته هذه مع مؤرخ معاصر، فربما كان هذا المؤرخ سيخبره أن سورية، خلال مرحلة كبيرة من القرن الماضي، كانت (ولا تزال اليوم) محوراً مهماً في المنافسة بين قادة بلاد الشام ومصر لأن مَن يسيطر على هذا البلد يستطيع أن يدعي امتلاكه مقداراً من الهيمنة الإقليمية، فمن دون استراتيجية بشأن سورية، من غير المرجح أن تنجح الولايات المتحدة في كبح لجام إيران.

أدرك الإيرانيون جيداً أهمية إنقاذ نظام الأسد في عام 2011، فلو سقط الأسد لخسرت طهران حليفها الرئيس في بلاد الشام الذي يقع على حدود عدوها الإقليمي الأول: إسرائيل. فلم يختلف قادة إيران، من نواحٍ عدة، عن قادة الماضي الذين أدركوا أن قوة الشرق الأوسط نبعت غالباً من سورية، فقد حكم ملك العراق فيصل الأول سورية فترة وجيزة عقب الحرب العالمية الأولى إلى أن أطاح به الفرنسيون، واعتبرت عائلته الهاشمية أن حكم دمشق يجسّد طموحها بتأسيس أمة عربية أكبر خاضعة لحكمها، وما زال عرب كثر يعتبرون اليوم إخراج فيصل من العاصمة السورية لحظة حاسمة قوّضت فيها القوة الاستعمارية الغربية طموحات القومية العربية.

Ad

في عام 1946، بدأ أخو فيصل عبدالله، الذي كان آنذاك ملك شرق الأردن، باتخاذ خطواته الخاصة بغية توسيع حكمه في سورية، وقد حظي في مسعاه هذا بدعم البريطانيين لأن بريطانيا اعتقدت أن دولة سورية الكبرى الخاضعة لحكم حلفائها الهاشميين تتيح لها الحفاظ على نفوذها في بلاد الشام، إلا أن هذه الخطة لم تُثمر واضطر عبدالله إلى مواجهة عالم عربي موحد ضده مع تشكيل مصر أحد خصومه الأبرز. في شهر فبراير عام 1958، حقق جمال عبدالناصر انتصاراً مهماً بتوحيده مصر وسورية ليؤسس الجمهورية العربية المتحدة، ومثلت هذه الوحدة في أعقاب حرب السويس عام 1956، حين اتحدت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في مهاجمتها مصر، ذروة طموحات الرئيس المصري الإقليمية، لكن هذا الاتحاد انهار عقب انقلاب في سورية عام 1961، مما شكّل ضربة قوية لمكانة عبدالناصر وهزيمة كبيرة له في بلاد الشام، وخصوصاً في زمن العدائية مع زعيم العراق عبدالكريم قاسم.

إذا كانت الولايات المتحدة ترغب حقاً في احتواء إيران، فستحتاج إلى ما يتخطى فرض عقوبات على هذا البلد، كما يعتقد ترامب على ما يبدو. تتفاعل القيادة الإيرانية مع تقييمها الخاص لميزان القوى، ولا شك أن ما رأته من خطوات أميركية في سورية لم يبهرها.

خلال عهد أوباما في البيت الأبيض، أدركت إيران أن الرئيس الأميركي لا يرغب في الإطاحة بالأسد، فكم بالأحرى اتخاذ خطوات ضد انتهاك النظام الخطوط الحمراء التي فرضتها واشنطن على استعمال الأسلحة الكيماوية؟ والأسوأ من ذلك أن أوباما بدا بعيد ذلك مؤيداً لمصالح إيران في سورية. ففي مقابلة مع الصحافي الأميركي جيفري غولدبرغ، أكّد الرئيس أن على المملكة العربية السعودية وإيران التوصل إلى طريقة "لتشاطر منطقة الشرق الأوسط وإقامة نوع من السلام البارد"، وأشارت ملاحظاته ضمنياً إلى أن التنازل لإيران عن سورية يشكّل جزءاً من معادلة إنشاء ميزان القوى الجديد هذا.

صحيح أن ترامب لم يتبنَّ موقفاً مماثلاً، إلا أن ما اعتمده شكّل بديلاً غير متناسق، فهو يريد معارضة إيران، بيد أنه لا يرغب في أن تؤدي الولايات المتحدة دوراً رئيساً في هذا، وقد يكون تردده هذا مبرراً على ضوء الجوء العام في الولايات المتحدة الذي يعارض أي مشاركة في حروب إقليمية جديدة، ولكن لا بد من أن نسأل: إذا كانت إيران تمثل خطراً استراتيجياً، كما تؤكد الولايات المتحدة، فهل من المنطقي أن تتبنى واشنطن موقفاً رافضاً للتدخل في التصدي لها؟

لا شك أن معرفة ترامب السطحية للشرق الأوسط خصوصاً ولكل ما يقع خارج الحدود الأميركية عموماً لا تساعده في فهم لمَ نصحه الكثير من أعضاء إدارته والكونغرس أخيراً بعدم الانسحاب من سورية، ولكن يكفي أن يلقي نظرة سريعة على السنوات السبعين الماضية ليدرك أن سورية ليست مجرد رمال وموت، بل تشكّل سورية اليوم مكاناً يجب أن نعمل فيه على تحجيم

طموحات إيران الإقليمية، إذا كانت نيتنا هذه صادقة.

* مايكل يونغ

* «ناشيونال»