كما هناك حياة للروح والنفس، يبدو أن للكلمات حيوات أيضا، فبعض الكلمات التي كانت جزءاً من طفولة هي الأخرى تبعثرت على رمال العمر لم تعد من المفردات التي تسمعها إلا نادراً عند البعض الذي يتصور أنه مهما تغيرت طقوس الحياة وتحولت الأزمان سيبقى هو قابضاً على تلك اللحظات والكلمات والتقاليد وكأنه يقول لو انتهت فحتماً أنتهي أنا وأجيال من بعدي.

في الذاكرة أو في زواياها تختزن بعض المفردات فلابدّ من السؤال: أين أصبحت هذه التي قلنا إنها أساس راسخ لمجتمعاتنا مثل العزوة والنخوة والشهامة والكرامة والنبل والكرم؟ تبقى العزوة الأكثر إلحاحا كلما سرحت الذاكرة في دهاليز التاريخ الشفهي للمجموعة. كان يقال فلان عزوتي أو فلانة عزوة رغم أن الأكثر هو أن الرجل هو عزوة العائلة من أقارب أو حتى جيران ومعارف في مجتمع لسنوات لم يكن قادراً على الاعتراف بدور نسائه في إدارة عائلات بأكملها.

Ad

ولم تكن العزوة مرتبطة بقرابة عائلية أو صلة دم، بل حتى بالعائلات المقيمة في "الفريج" نفسه (الحي)، أو حتى المجموعة التي تعمل في المهنة نفسها أو المكان نفسه أو المجموعة التي قررت أن تجتمع تحت راية هدف معين أو موقف اجتماعي أو ثقافي أو سياسي أو حتى أخلاقي مثل جمعية الشفافية، أو تلك التي تقف ضد الفساد أو حماية المستهلك، أو اتحاد طلبة أو الجمعيات النسائية وغيرها... تلك المجموعات التي اعترف العالم على تسميتها جمعيات المجتمع المدني أو النفع العام، وهي بذلك على الجهة الأخرى من تلك المرتبطة بالحكومات المحلية أو الخارجية!!

المثير أن حتى أبسط التجمعات تخلت عن مفاهيمها المرتبطة جميعا تحت راية التضامن والمعاضدة، وأصبح الشعار "لكل مصلحته ومن بعده الطوفان"، رغم أن في الشعارات يتبارى الجميع في وضع الأهداف المرتبطة بخدمة الإنسان طفلاً كان أم امرأة، مواطناً أو وافداً، مقيماً أو زائراً، كل العبارات المرصوصة بعناية والمستحدثة كثيراً والمكررة حد الملل والسماجة حتى أن الكثير من النواب المحدثين والقادمين الجدد إلى ركب العمل السياسي والتشريعي، يدخلون مناصبهم الجديدة مسلحين بكثير من هذه العبارات والمفردات المطاطة والممسوخه كمسخ السياسة التي أصبحت مرتعاً لكل من لا مهنة له!

تطفو العزوة مع تلك الشعارات والمشاهدات، تبحث عن أحد يستخدمها بحق أو يعرف عمق معناها، فلا تجد إلا مزيداً من الزبد!! فذاك الذي غرد برأي يجر إلى التوقيف إن لم يكن السجن لأيام، ولا عزوة له في أهل مهنته، بل ابتعد الجميع ربما خوفاً، وهو المرض المنتشر الآن في مجتمعات تخاف ظلها أو ربما تخاف أشباح النساء والرجال الحقيقيين الذين رحلوا وكانوا هم عزوة الوطن.

وأخرى قالت رأياً في الدين والمرأة فاشتعلت الحملات عليها ملصقة كل الصفات السيئة، ولم تتحرك امرأة ولا جمعية نسائية محلية أو إقليمية للدفاع عنها، فلا عزوة لها ولا عزاء!!

سقطت العزوة كأخواتها بين تلاطم أمواج التغييرات السريعة لمجتمعات هشة كالبسكويت، انتقلت إلى الصفحات الصفراء في الكتب المركونة على الأرفف يعلوها الغبار في حين حولها الكثيرون محلقون حول مجلس عامر بكل ما لذّ وطاب وهم جميعا ملتصقون بهواتفهم الذكية يبحثون عن خبر هنا أو حديث أو فضيحة هناك، ثم يرشفون بعضاً من الشاي المسكّر وهم يرددون "الحيطان لها آذان يا شباب وشابات"، أو "ابعد عن الشر وغني له"، أو حتى يبرروا لأنفسهم خوفهم وعجزهم وتخليهم عن كل ما هو جميل بهذا المجتمع، وما يلبثون أن يعودوا إلى شاشات هواتفهم بحثا عن خبر جديد يتسلون به بعض الوقت ثم يرحلون إلى خبر آخر أو أغنية أو رقصة أو...!!

وما دمنا في زحمة المتاحف العالمية فلمَ لا يفتتح أحدها ليتخصص فيما انتهى وانقرض من مفردات وصفات اجتماعية وأخلاقيات؟ أليست المتاحف أمكنة للتذكير بما كان يمثل شكلاً من أشكال الحضارة؟ وأليست الأخلاق هي أساس كل الحضارات؟ بدلا من التركيز على بعض تفاصيل الحياة الفلكلورية، ولمَ لا يكون هناك متحف للتاريخ الشفهي لهذا البلد أو هذا الجزء من تلك المنطقة؟ فأحد أهم ما يبقى بعد أن ترحل الأرواح بعيداً وبعد أن تنقرض الكلمات وتنتهي أو تختفي معانيها من تضاريس أيامنا، هو أن نحتفظ بها في مكان ما ربما يوماً ما يتذكرها صغارنا كما قد يتذكرون كثيراً من الجمال الذي كان وتلاشى.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق المصرية"