بدأتُ أفكر في فرنسا بشكل غير مألوف في الفترة الأخيرة، وتحديداً في الوضع السياسي هناك. أمام احتجاجات "السترات الصفراء"، تخلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الوعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية بالالتزام بأجندته الإصلاحية مهما حصل، فألغى الزيادات الضريبية وتعهد بزيادة خطط الإنفاق، مما أدى إلى توسيع عجز الميزانية بما يفوق عتبة الاتحاد الأوروبي التي تبلغ 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. قال مفوض الميزانية في الاتحاد الأوروبي، غونتر أوتينجر، إن الاتحاد قد يقوم باستثناء ويوافق على الميزانية الفرنسية التي تخالف القواعد المعمول بها.

لكن الحكومة الإيطالية الجديدة لم تستفد من استثناء مماثل، علماً أنها تسعى إلى كسب الدعم لميزانية يبلغ العجز فيها 2.4 في المئة. يريد الاتحاد الأوروبي كبح الدين الإيطالي الذي يبلغ 130 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويفوق عتبة الاتحاد الأوروبي التي تقتصر على 60 في المئة بنسبة تفوق الضعف. (تتجاوز فرنسا بدورها تلك العتبة لكن الدين في هذه الحالة يساوي الناتج المحلي الإجمالي تقريباً).

Ad

بنظر الاتحاد الأوروبي، تُعتبر الحكومة الإيطالية بمصاف الأعداء كونها مؤلفة من "شعبويين" وأشخاص ينتقدون الاتحاد الأوروبي من وقت لآخر، لم يحصل هؤلاء على أي تسهيلات، مع أن إيطاليا شهدت اضطرابات سياسية بقدر فرنسا أو أكثر منها.

يُفترض أن تُذكّرنا هذه الأحداث كلها بأن عضوية الاتحاد الأوروبي ميزة لا يُحسَد عليها! يكون أي بلد ميسور نسبياً في أوروبا الغربية معرّضاً للاضطرابات، ويتم التعامل مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بطريقة "فوضوية"، مع أن هذه الطريقة قد تبدو منظّمة ومتحضرة بنظر الجهات الخارجية مقارنة بما يحصل داخل الاتحاد الأوروبي بحد ذاته. كان متوقعاً أن يعطي قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي أثراً سياسياً فورياً يتمثل في زيادة قوة أقدم الأحزاب البارزة في بريطانيا: حزب المحافظين وحزب العمال.

في غضون ذلك، تتابع الأحزاب السياسية التقليدية في الاتحاد الأوروبي تخبّطها وتتجه إلى الزوال، وقد انتقلت احتجاجات "السترات الصفراء" من المدن الفرنسية إلى بروكسل، ولا تزال الأحزاب "الشعبوية" المزعومة تحقق المكاسب.

يمكن اعتبار الاتحاد الأوروبي بناءً لامعاً وماكراً في آن، إذ من الواضح أن المصالح الفرنسية والألمانية تبقى على رأس أولوياته، لكن هذا الكيان يجذب طبقة سياسية من البلدان الأصغر حجماً من خلال إلغاء الأسئلة الصعبة التي تتعلق بحكم البلدان انطلاقاً من البرلمانات وتوفير مناصب نافذة لا تخضع للمحاسبة وتبدو أكثر تألقاً من الحكومات الوطنية. وبما أن الألمان لا يريدون أن يظهروا بصورة الكتلة الطاغية، تُوزَّع المكاتب السياسية في أعلى المراتب بسخاء على دول أعضاء من الدرجة الثانية مثل بلجيكا وبولندا وسلوفاكيا والبرتغال.

يضمن غياب المحاسبة منفعة مهمة، إذ اضطرت تيريزا ماي إلى الإجابة عن أسئلة الرأي العام البريطاني بشأن الاتفاق الذي تفاوضت عليه مع بروكسل، لكن من سيحاسب بروكسل على نتائج المشاركة في تلك المفاوضات؟ إذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ودمّرت بذلك المصالح المهنية في القارة لمجرّد أن المفاوضين الأوروبيين كانوا متعنتين أكثر من اللزوم، من سيجرؤ على طرد هؤلاء المفاوضين؟ من سيحاسبهم؟ لا أحد! ليس لديهم ما يخشونه.

ينجم الاضطراب السياسي السائد في أنحاء أوروبا بشكل أساسي عن فوقية الاتحاد الأوروبي، وانحيازه الفاضح، وازدرائه للانتخابات، ونزعته إلى قمع المعتقدات السياسية التقليدية، وإصراره على عدم التجاوب، لكن المشكلة الفعلية تتعلق في المقام الأول بعدم اعتبار الاتحاد الأوروبي مؤسسة حاكمة بالمعنى الطبيعي للمصطلح. لا يقوم الاتحاد بالمهام الأولية التي تؤديها الحكومات، مثل سن القوانين وفرض النظام والتوفيق بين مختلف المصالح ضمن مجتمع فاعل، بل يمكن اعتبار الاتحاد الأوروبي بمثابة مشروع غائي، بمعنى أنه يسعى إلى هدف محدد، ويقضي عمله بإنشاء "بُعد أوروبي إضافي"، ما يعني أن يكون هذا الكيان موجوداً لنفسه، فيستعمل مظاهر "السيادة المتراكمة" في الدول الأعضاء المنتسبة إليه لمحاولة تجريد تلك الدول من أجزاء إضافية من سيادتها. لهذا السبب، يكمن النفوذ الحقيقي في يد هيئة غير مُنتخبة، ولهذا السبب أيضاً يتجاهل الاتحاد الأوروبي أي استفتاء وطني لا يدعم أهدافه المُحددة مسبقاً أو يكرر الاستفتاءات من جديد.

لقد أثبت الاتحاد الأوروبي أنه يستطيع تغيير سرعة الأحداث لكنه يعجز عن تغيير المسار القائم، وبما أنه يعجز عن تصحيح المسار، فلا مفر من تعرّضه لاصطدام مريع في نهاية المطاف!

* مايكل براندن دوجيرتي

* (ناشونال ريفيو)