في الوقت الذي ينشغل فيه العالم باحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، تغمره أجواء الفرحة والتهاني والتمنيات الطيبة بالعام الجديد، ينشط خطباء الجمعة، ومواطنون تتملكهم الغيرة الدينية، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، محذرين من تهنئة غير المسلمين في مجتمعنا الخليجي، بأعياد الميلاد أو المشاركة فيها، بحجة أنها من المنهيات الدينية المحرمة.

لا يزال هذا الخطاب الذي يغذي الكراهية، ويقيم حواجز نفسية واجتماعية ودينية، يتكرر كل عام، في مجتمعات خليجية مشدودة إلى فقه البداوة وأعرافها، بعد أن تجاوزتها المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى… فهل لهؤلاء المتشددين أي سند شرعي صحيح؟ وهل يحرم الإسلام تهنئة غير المسلمين ومشاركتهم أعيادهم، بينما هم يسارعون إلى تهنئة المسلمين ومشاركتهم أعيادهم؟! هؤلاء، يعتقدون أن التهنئة أو المشاركة تتضمن إقراراً بصحة معتقدهم، أو التشبه بهم، أو الموالاة المحرمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء".

Ad

والحقيقة أنهم حرموا مباحاً، وتشددوا في غير موضعه، وليس من منهج الإسلام التوسع في التحريم، لأن الأصل العام في المعاملات والأشياء والتصرفات والعلاقات بين البشر، هو الإباحة، وجاء النص القرآني الصريح مؤكداً "أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ"، فهل من البر مقاطعتهم، وهل من الإقساط عدم إجابة دعوتهم؟!

وقديماً أجاب العلامة الشهير السيد محمد رشيد رضا، حين سئل عن زيارة ومشاركة النصارى أعيادهم وتهنئتهم: إن مصالح أهل الوطن الواحد مرتبطة بمحاسنة بعضهم بعضاً، وأن الذي يسيء معاملة الناس يمقته الناس فتفوته جميع المصالح، وإذا أسند سوء المعاملة إلى الدين، يكون ذلك أكبر مطعن في الدين، فلك أيها السائل ولغيرك من المسلمين أن تزوروا النصارى في أعيادهم، وتعاملوهم بمكارم الأخلاق أحسن مما يعاملونكم، فإنه مطلوب لذاته مع حسن النية.

أما ما استندوا إليه من حجج، فقد أخطأوا في فهمها، إذ لا تعني التهنئة أو المشاركة، إقراراً بصحة المعتقد، ولو كان ذلك صحيحاً، ما أقر نبينا عليه الصلاة والسلام معاهدة المدينة مع اليهود، أما شبهة التشبه المنهي عنه، فذلك في "المسلكيات" المخالفة للدين في الشرب والملبس والعلاقات بين الجنسين، إذ لكل أمة هويتها الدينية والثقافية، لا الأمور العامة المشتركة بين البشر، كالتهنئة أو المشاركة في الفرح، وليتنا كنا قادرين على التشبه بهم في تقدمهم.

القرآن الكريم احتفى بمولد عيسى عليه السلام "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ"، فما المانع من المشاركة في الاحتفال بميلاده؟ وهو الذي بشر بقدوم نبينا "وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"؟ كيف نقاطع العالم ولا نشاركهم أعياد البهجة والسرور بمولد السيد المسيح، وقد قال نبينا "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم"، كما صام عاشوراء يوم صوم اليهود، وقال "نحن أولى بموسى عليه السلام"؟

أما الموالاة المحرمة، فتلك مع الأعداء، كما في سياق الآية، لا مع الأصدقاء والحلفاء المسالمين، وإلا لو كانت كل موالاة محرمة، ما أباح لنا الله تعالى المصاهرة بالكتابية، ويكون أخوها خال أولادي، فكيف لا يهنئون أمهم وخالهم؟ وكيف تحرم موالاة من قال تعالى فيهم "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى"؟!

ختاماً: علاقة المسلم بغيره تقوم على الرحمة والبر والتواصل والتعايش السلمي، والخليج الذين انفتح عبر التاريخ على الآخرين، من غير عقد كراهية أو استعلاء، أولى بهذا التواصل الإيجابي مع المقيمين غير المسلمين الذين يشكلون الأغلبية.

وفِي قطر التي تستنفر الجهود لاحتضان المونديال العالمي، واستقبال العالم، فإن تهيئة الأجواء الاجتماعية الودية، ونشر التسامح الديني، يعدان أولوية، ويجدر بالجهات الدينية الخليجية أن تنفتح على الآخرين، وتبادر بتهنئة غير المسلمين إبرازاً لمحاسن الإسلام، وغرس قيم المودة والتآخي الإنساني، ولها في الأزهر الشريف الذي يرسل وفداً من العلماء للتهنئة قدوة طيبة، وفي فتوى فضيلة الشيخ القرضاوي الإيجابية سند ودعم.

* كاتب قطري