ربما كان توقيت رحيل جورج بوش الأب الشهر الماضي رحيماً، فلم يُضطر إلى رؤية الولايات المتحدة تخسر الحرب الباردة.

كان بوش رئيس الولايات المتحدة عند انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، لكن النصر الذي حققه هو وآخرون بدماء الأميركيين وأموالهم طوال 71 سنة، منزلين الهزيمة بالاتحاد السوفياتي وفارضين الضوابط على الدولة التي خلفته، بدده ترامب في سنتين.

Ad

تسارع تقويض ترامب نظام ما بعد الحرب قبل أيام حين أعلن عملية انسحاب عشوائية من سورية، متخلياً عن عدد كبير من حلفائنا الذي شاركوا في الحملة ضد داعش، تاركاً شركاءنا الأكراد لمصير قاتم، ومانحاً روسيا وإيران الحرية في الشرق الأوسط، ثم كثرت الأخبار عن أن ترامب أمر بانسحاب متهور آخر من أفغانستان، أما وزير الدفاع في إدارته، الجنرال المتقاعد جيم ماتيس، فقدّم استقالته احتجاجاً على الشرخ الذي تسبب به ترامب مع حلفائنا وتشجيعه روسيا وإيران.

يتخيل المسلسل التلفزيوني Man in High Castle (رجل في برج عالٍ) عالماً ربح فيه النازيون الحرب العالمية الثانية، لكننا لا نحتاج إلى تاريخ بديل كي نتخيل انتصار السوفيات في الحرب الباردة... يكفينا ترامب.

كتب ماتيس في رسالة استقالته المميزة (شكلت خاتمة لـ"البرقية الطويلة" التي أرسلها جورج كينان عام 1946): "من الضروري أن نبذل قصارى جهدنا كي نروّج للنظام العالمي الأفضل لأمننا، وازدهارنا، وقيمنا، ويدعمنا في هذا المسعى تضامن حلفائنا، وبما أن من حقك الحصول على وزير دفاع تتوافق وجهات نظره بشكل أفضل مع وجهات نظرك في هذا وغيره من المواضيع، أظن أن من الصائب بالنسبة إلي التنحي من منصبي".

عرض ماتيس وجهات نظره التي لا "تتوافق" على ما يبدو مع وجهات نظر ترامب: "التعامل مع الحلفاء باحترام"، والإيمان بديمقراطيات حلف شمال الأطلسي التسع والعشرين، واحترام الائتلاف المؤلف من 74 أمة والذي أنزل الهزيمة بداعش (والذي تخلى عنه ترامب الآن في سورية)، والاعتراف بالخطر الذي تمثله الصين وروسيا اللتين "تريدان أن تصوغا عالماً يتماشى مع نموذجهما الاستبدادي... على حساب جيرانهما، الولايات المتحدة، وحلفائنا".

يدّعي الجمهوريون اليوم أنهم قلقون، ويذكر زعيم الأكثرية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل (ممثل كنتاكي الجمهوري)، الذي مكّن ترامب في كل خطوة، أنه "متكدر حقاً". ويرى السيناتور ليندسي أو. غراهام (ممثل كارولاينا الجنوبية الجمهوري) أن في الأمر "فوضى"، لكن هذا غير كافٍ، وقد جاء متأخراً، إذ أعلنت تركيا أنها سترجئ غزواً لسورية بينما تغادر القوات الأميركية، ألم يكن من الأفضل لو "دفنّا" حلفاءنا الأكراد؟ وذكر الرئيس الروسي بوتين مغتبطاً: "لا يُفترض أن يكون الجنود الأميركيون في سورية، فقد دخلوها بطريقة غير مشروعة".

لا شك أن قائداً سوفياتياً ما كان ليتوصل إلى سيناريو أفضل مما قدّمه ترامب لبوتين مع وجود شرخ بين الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي بشأن مستقبل هذا الائتلاف، فضلاً عن مطالبة الولايات المتحدة بإعادة روسيا إلى مجموعة الدول السبع، فيما تواصل روسيا استفزازاتها في أوكرانيا، إلى جانب تهديد الولايات المتحدة بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية وفرض جولة من الرسوم الجمركية التي تضعف هذه المنظمة إلى حد كبير.

وقد تسبب الرئيس الأميركي في شرخ بين الولايات المتحدة وأوروبا بسبب إيران (الاتفاق النووي) والتغير المناخي (اتفاقات باريس)، كما تقبّل الرئيس الأميركي حاكماً كوريا شمالياً مستبداً وعنيفاً من دون تقديم هذا الأخير أي تنازلات ملموسة بشأن برنامجه النووي.

وفي هذا السياق، أطلقت الولايات المتحدة حرباً تجارية يشير الاحتياطي الفدرالي إلى أنها مسؤولة عن تراجع النمو حول العالم، في ظل فقدان الأميركيين الثقة بالانتخابات، ووزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفدرالي، والمحاكم، والصحافة الحرة.

وإلى جانب تبدُّد إجماع الحزبين بشأن الخطر الروسي، اعتبر 40 في المئة من الجمهوريين روسيا حليفاً أو صديقاً في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب، بعدما بلغت النسبة 22 في المئة في عام 2014.

ولكن: لماذا ضيّع ترامب الكثير ليحصل على القليل؟ ربما لأن روسيا كانت تتفاوض سراً عام 2016 على صفقة تجارية في موسكو مع ترامب ونشر وثائق مسروقة تلحق الأذى بمنافسته الديمقراطية.

وسواء استخلص المحقق الخاص روبرت س. مولر الثالث حدوث مقايضة أو لا، من الواضح أن بوتين حقق مكاسب كبيرة من رئاسة ترامب.

في هلسنكي، قبِل ترامب أمام العالم كلمة بوتين، مكذباً وكالات الاستخبارات الأميركية، حتى إن ترامب استاء من إصرار مساعديه على فرض العقوبات على روسيا، كذلك رحل القلائل الذين كانوا يقاومون ميول ترامب الموالية لبوتين مثل هربرت ماكماستر، وريكس تيلرسون، وجون كيلي، والآن ماتيس.

دفعت أجيال من الأميركيين الثمن وتكبدت المشقة من برلين إلى سايغون وهافانا، لكن ترامب اليوم، بعد مرور 29 سنة على سقوط الجدار، يمنح موسكو انتصاراً في الحرب الباردة ما كانت لتحرزه مطلقاً.

* دانا ميلبانك

* (واشنطن بوست)