منذ تفجّر أزمة الإيداعات المليونية والتحويلات الخارجية في عام 2011، وطريقة التعامل معها، بدأت الفضائح المالية وصور الفساد تأخذ منحنى جديداً، سواء فيما يتعلق بحجم السرقات ومبالغها النقدية أو ما يخص الأطراف المشتبه بها ومستوياتها الاجتماعية ومواقعها الإدارية والسياسية في الدولة.

وهذا ما حذرنا منه في حينه، وتحديداً في ساحة الإرادة، عندما نبهنا وبشكل صريح إلى أن السكوت عن تداعيات ملف "القبيضة" وتورط عدد كبير من أعضاء مجلس الأمة في تلك القضية سوف ينتهي إلى اتساع دائرة الفساد المالي في الكويت وعلى أعلى المستويات، وأن قصة الإيداعات رغم المبالغ الكبيرة التي تم حصرها هي مجرد بالونة اختبار للمزيد من القصص التي قد تصل إلى مستوى الخيال أو ما لا يصدقه العقل في الظروف الطبيعية.

Ad

ولكن مع الأسف الشديد كان لإقحام البعد الطائفي إضافة إلى البعد القبلي في الساحة السياسية الأثر الكبير في تمييع قضية القبيضة وتهميشها، وساعد على ذبح ذلك الملف أيضاً السلوكيات والتصريحات ذات الطابع المذهبي والاستفزازي لبعض من تصدوا لملف الإيداعات، فنتج عن ذلك انشقاق الوسط الكويتي والاستقطاب الحاد في الرأي العام المحلي، إذ غلبت العاطفة والمصالح الضيقة الأهداف الوطنية العليا.

لذلك لا نستغرب هذا الكم الهائل من الأخبار والتسريبات حول سرقات كبرى أبطالها من علية القوم وأدواتها من كبار الموظفين في وزارات ذات درجة عالية من الأهمية والحساسية، وربما تنكشف خلال الأيام القادمة نماذج أخرى من قصص النهب والسلب الصادمة، ولكن البعد الأخطر فيما يتم الترويج له حالياً يكمن في درجة الجرأة والوضوح في نشر تفاصيل السرقات الجديدة بالأرقام وبتسمية أصحابها والأكثر من ذلك متابعة الخطوات الإجرائية التي تم اتخاذها، وهنا تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً إضافياً وربما أحياناً بشكل مبالغ فيه لخلط الأوراق ونشر الإشاعات والحرب الشاملة بين مختلف الخصوم للإسقاط والتشويه من أجل تضليل الناس، وسط سكوت الحكومة عن نفي أو إثبات الأنباء المتواترة وفرزها بين ما هو حقيقة وما هو إشاعة أيضاً لغرض في نفس يعقوب.

نعود إلى الجرائم المثبتة في مثال وزارة الداخلية مثلاً، وما يمكن أن نستشفه من رسائل منها، ويجب أولاً الإشارة إلى دور الأخ الفاضل وزير الداخلية في فتح ملفات الفساد في وزارته، ولولا ذلك ما كانت الأمور تصل إلى ما نراه من تفاصيل، ونتوخى في ذلك النوايا الصادقة والحس الوطني في طريق الإصلاح، ولكن ما نراه من طريقة التعامل مع هذه الفضائح لا يبشر بالخير بل يحمل دلالات خطيرة جداً ورسائل تضمر المزيد من الشر، فالإعلان عن الأسماء الكبيرة دون أية ردود فعل مسؤولة، وبيان الأرقام الفلكية الواردة في الاتهامات، وإطلاق سراح المتهمين بعد سداد ملايين الدنانير في النيابة ليعودوا إلى الواجهة و"البرستيج" وكأن شيئاً لم يكن، لا يمكن تفسيرها قانونياً أو أخلاقياً، بل قد يكون المراد منها هو الإعلان الصريح للناس بأن هذا هو المشهد الموجود، والحرامية باتوا يشار إليهم بشكل مباشر وعلني، ولن يتم المساس بهم، سواء قبلتم أو رفضتم، ومن لا يعجبه فليشرب من ماء البحر، ويبدو أن الجميع إلا ما ندر عندهم الاستعداد للشرب من هذا الماء الأجاج وأن يتحولوا إلى دجاج، فمن أعاد القبيضة إلى تمثيلهم تحت قبة التشريع والرقابة سيرجع حرامية الوزارات إلى مواقعهم معززين مكرمين أيضاً.