الحديث هناك عن سور جديد، هو رئيس أكبر وأهم بلد يتحكم في مصائر شعوب عديدة في العالم عبر الحروب والجيوش ساعة، وعبر البضائع وثقافة الوجبات السريعة والاستهلاك ساعات... هو يعود ليذكّر العالم بذاك السور في تلك المدينة العريقة، كيف لك أن تدخل برلين دون أن تزور "checkpoint Charlie"، وهي نقطة العبور عند جدار برلين الذي كان بين شرقها وغربها خلال الحرب الباردة في الفترة من 1947 إلى 1991.

هذه النقطة الآن هي مزار للسياح والزائرين لمدينة برلين، وحولهم تغيرت كثير من الملامح إلا بعض الصور هنا وهناك لما كان عليه الوضع... نقطة العبور هذه تحولت مع الزمن رمزاً للفصل بجميع أشكاله وأنواعه وفي كل مكان، وربما تأخذ منها العبرة للفصل بين الشعوب، بين البشر، بين الدول، للحدود المصطنعة التي رُسِمت كلها بكثير من دماء الأبرياء أو بعصاة المستعمر.. في تلك الليلة الشديدة البرودة ومع انتهاء الاجتماعات المطولة التي أخذت الفريق العامل من طرف المدينة إلى طرفها الآخر، أصرت تلك المجموعة على زيارة نقطة عبور تشارلي، فكان أن وصلت وبعض الثلج يتساقط هنا وهناك في ظلمات ليلة شتوية شديدة القساوة... تخيلت أشباح العابرين من هناك تخرج من خلف الجدار تزحف من خلال فتحة هنا أو هناك تسير وكأنها تتطلع إلى بعض حرية قد رحلت أو إلى حنين لحبيب أو قريب على الجهة الأخرى من السور.

Ad

في ليلة 9 نوفمبر 1989 عندما بدأت عملية هدم ذاك السور ومعها إسدال الستارة على مرحلة من التاريخ الحديث تصور الكثيرون حينئذٍ أن بعض الحلم يبرز من خلال محطات التلفزة، وراح آخرون يتساءلون: هل هذه حقيقة أم محض خيال؟!

سقطت الأسوار بعدها أو هكذا خُيِّل لمن يكتبون التاريخ أحياناً بكثير من المصداقية والموضوعية، وكثيراً بما يمليه عليهم أصحاب القرار أو كما رأوا هم التاريخ من خلال عدستهم الضيقة جداً.. قالوا جميعاً هذه نهاية للأسوار العازلة على كل المستويات بين المدن والأحياء والبلدان وبين البشر أيضاً.

منذ أشهر وقف رئيس تلك البلد أمام نماذج لجدران مختلفة ليختار من بينها الأنسب و"الأجمل" ليضعه حاجزاً منيعاً بين بلاده والمكسيك... قال إنه يبنيه لأنه يحمي بلاده من القتلة والمجرمين وتجار المخدرات القادمين من الجنوب، وكرر أن الجدار سيكون جميلاً وسيزيد المدينة جمالاً ولن يتسبب في تشويهها! ليس هو الوحيد الذي بنى جداراً في القرن الحالي فقد سبقته تلك التي تدعي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تلك التي استحقت لقب آخر نماذج الفصل العنصري... راح الجدار يتلوى كالأفعى بين خاصرة بيوت الفلسطينيين، يفصل الأم عن أبنائها والأطفال عن مدارسهم والعمال عن أماكن عملهم والمزارعين عن حقول زيتونهم التي تقتلعها جرافاتهم كل يوم... كيف يجملون الأسوار؟!

فيما هم يبنون أسوارهم الأسمنتية العالية ويعزلون شعوبهم عن شعوب أخرى كي لا تلوثهم، نقوم نحن ببناء الأسوار الزجاجية، أسواراً لا لون لها سوى الكراهية بين الأخ وأخيه ومواطن وآخر وبشر وبشر آخر.. أسواراً تعلو كلما اعتلت المنابر الأصوات القبيحة التي لا تعرف الجمال ولا المحبة ولا الرحمة، ولا أن البشر قد خُلِقوا متساوين "كأسنان المشط" وأنهم "ولدتهم أمهاتهم أحراراً" فيما هم يحولونهم إلى أشباه عبيد.

عند نقطة عبور تشارلي والأشباح تزحف في الأفق البعيد والثلوج تتساقط لا يستطيع المرء إلا أن يتمنى أن تعاد صور أولئك الذين حملوا المعاول لإسقاط ذاك الجدار بأيديهم حجراً حجراً، ووضعوا تلك الأحجار رمزاً لسقوط ونهاية مرحلة من التاريخ، لم يدركوا أنها ستعود سريعاً وأن أشباح الجدار التي ماتت ملتصقة به أو محاولة تسلقه لا تزال تطارد الكثيرين، وآخرين لا يعرفون إلا العزلة، فلن يعرفوا سوى بناء مزيد من الجدران والحواجز، مزيد من القبح والكراهية رغم محاولاتهم إطلاق تسميات رقيقة ورومانسية أحيانا عليها كالوطن والمواطنة!! أو كحماية الوطن ونقاء العرق حيث يبدو الآخر حتى لو كان جاري أو أخي أو صديق الطفولة أو زميل العمل، هو الكارثة لهذا الوطن لأنه لا يشبهني في لون البشرة أو الديانة أو الطائفة... مرحى لكثير من المعاول التي لا تكل من هدم الجدران واحداً خلف الآخر حتى آخر حجر أو تغريدة كراهية.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية