لا شك في أن بريطانيا، أقدم ديمقراطية في العالم ما زالت قائمة حتى اليوم، وأم كل البرلمانات، وأحد أكثر الأنظمة القانونية تطوراً، وإحدى البيروقراطيات الحكومية الأكثر خبرة في العالم، تستطيع الاعتماد على تدابير معتمدة وأمثلة سابقة حتى في وضع تبدو فيه غالبية الأصوات في مجلس العموم بعيدة عن منال الحكومة، لكن هذا لا يحدث اليوم.

من المؤسف أن المفوضية الأوروبية قد أصابت عندما ذكرت أنها لا تستطيع عقد صفقة مع شريك مفاوض لا يتمتع بأي تفويض واضح بشأن النتيجة المحددة التي يرغب فيها حقاً.

Ad

لا تقتصر المشكلة على أن سياسة الحكومة في المملكة المتحدة، التي تبنتها عقب استفتاء عام 2016 والتي هدفت إلى إقامة علاقات خاصة مع أعضاء الاتحاد الأوروبي كل منهم على حدة، مفككةً بالتالي وحدة الدول الأعضاء السبع والعشرين في هذا الاتحاد، أخفقت بالكامل، والأسوأ من ذلك أن حكومة المملكة المتحدة تفاوض في الواقع ضد نفسها.

كما لو أن هذا كله لم يكن سيئاً كفاية، صبت الحكومة البريطانية لفترة طويلة كل اهتمامها على عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، ونتيجة لذلك، لم تتخذ قرارات مهمة في مسائل أخرى طوال أكثر من سنتين، وهكذا بلغت آلية الحكومة حالة جمود فعلية.

نتيجة لذلك، بدأت هذه القوة العالمية السابقة، التي تشكّل عضواً دائماً في مجلس الأمن، والتي ما زالت تُعتبر أحد أكبر الاقتصادات في العالم، والتي تحتفظ بقوة عسكرية مذهلة، تعرب عن خصائص نلاحظها عادةً مع "الدول الفاشلة".

لم يساهم سوء السلوك الفادح، الذي أقدم عليه بعض السياسيين، في دحض هذه الفكرة، ويشمل هؤلاء وزير الخارجية جيريمي هانت الذي يفضل عملية خروج عنيفة من الاتحاد الأوروبي.

علاوة على ذلك، تحولت وزيرة الخارجية البريطانية في المؤتمرات الدولية، مثل قمة مجموعة الدول العشرين التي عُقدت أخيراً، إلى مجرد شخصية لا أهمية لها تعمل على هامش الحدث، وقد أضجرت زملاءها بمحاولة عقيمة أخرى لتحسين مكانتها.

استقالة ماي لن تبدل الوضع

حتى لو استقالت تيريزا ماي، من الصعب أن نرى كيف ستساهم هذه الخطوة في تحسين الأوضاع، إذ يعاني حزبا المحافظين والعمال على حد سواء انقسامات حادة ولا يميلان بأي طريقة إلى وضع مصالح بريطانيا قبل مصالحهما الخاصة.

ينطبق الأمر عينه على معظم النواب، كذلك تبدو اسكتلندا عاقدة العزم أكثر من أي وقت مضى على الخروج من المملكة المتحدة. في الوقت عينه، تشير استطلاعات الرأي في أيرلندا الشمالية إلى أن عدداً أكبر من البروتستانت، مقارنةً ببضع سنوات مضت، لا يمانعون العيش في جمهورية أيرلندا وبالتالي في الاتحاد الأوروبي، كذلك تستمر الشائعات عن أن نواب حزب "شين فين" يعيدون النظر في قرارهم السابق بشأن عدم شغلهم مقاعدهم في وستمنستر.

لكن عملية التمزيق هذه تمتد إلى أبعد من التطورات الإقليمية، إذ يؤدي اليوم الإخفاق المتفشي لغالبية الشعب البريطاني ونخبه الحاكمة في تقبّل الواقع على مدى مئة سنة تقريباً إلى انهيار كامل لنسيج المملكة المتحدة وقد يقود إلى سقوطها.

تواجه بريطانيا حالة طوارئ، لذلك من الضروري اتخاذ تدابير طارئة، حتى لو شمل ذلك تخطي عملية الإجراءات البرلمانية المعتمدة.

انقلاب كاميرون

لا يُعتبر استفتاء ديفيد كاميرون بعيداً كثيراً عن الانقلاب في المقام الأول، صحيح أن الدستور البريطاني، الذي يدافع عنه مؤيدو الخروج بقوة وبلاغة، يستند إلى سيادة البرلمان، إلا أن كاميرون قرر تخطي صلاحيات هذا البرلمان لإجراء استفتاء لم يقدّم أي حجج تدعمه أو تحليل منطقي يبرره.

تتضارب حجة "استعادة السيطرة" بعمق مع إعادتها إلى مكمنها الأساسي، لذلك، قد لا يكون ممكناً تجاوز هذا الدرب المباشر والضيق مرة أخرى!

ندرك من كل كتب التاريخ أنه لا إنكلترا (فكم بالأحرى اسكتلندا وأيرلندا؟) ولا أي أمة أوروبية أخرى استطاعت الحفاظ كاملاً على استمرارية التشريع وقانونيته التامة في ظل شتى الظروف السياسية. قد يشكّل إجراء استفتاء ثانٍ شكلاً ناعماً من التدابير الطارئة، ولكن مَن يعلم؟ دفاعاً عن مصلحة البلد، قد يشعر بعض الرجال والنساء الشجعان الحسني النوايا، كما نأمل، بالحاجة الملحة إلى تبني مبادرة أكثر جرأة وقوة، ولن يشكّل هذا مفاجأة كبيرة في رأيي.

* روبرت ستراتشويتز

* «غلوبليست»