يوم علمت بوفاة جورج بوش تذكرت لقاءاتي به التي وسمت نقطة تحول في علاقتنا الشخصية والعلاقات بين بلدينا،

خضنا أول محادثة جدية في شهر ديسمبر عام 1987، حين توجهت في زيارة رسمية إلى واشنطن، كان جورج آنذاك نائب الرئيس وكان مرشحاً للرئاسة.

Ad

اختتمت زيارتي هذه بتوقيع معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى، وغادرت بعد ذلك من قاعدة لسلاح الجو، ووفق البروتوكول وربما وفق رغبته الخاصة كان يُفترض أن يرافقني نائب الرئيس إلى القاعدة، واقترح جورج أن أقصدها بسيارتي في خطوة غير اعتيادية ولا تنسجم بالتأكيد مع البروتوكول.

تذكرنا لاحقاً في مناسبات عدة تلك «المحادثة في السيارة»، فلم تقتصر على الدردشة المعتادة، اتفقنا آنذاك على أن العلاقات بين بلدينا بلغت مستوى جديداً، وأن فرصاً جديدة تنفتح أمامنا، وأن علينا استغلالها إلى أقصى حد ممكن. كذلك طمأنني نائب الرئيس إلى أنه، إذا انتُخب رئيساً فسيواصل ما بدأناه مع الرئيس ريغان، والأهم من ذلك أننا اتفقنا على أننا لن نعمد إلى تقويض مصالح بعضنا فيما يختص بالدول الأخرى، ولكن بعدما انتُخب بوش رئيساً، نشرت وسائل الإعلام الأميركية تقارير عن أن الإدارة الجديدة لن تكون مستعدة للعمل معنا بجد من البداية وأنها ستأخذ فترة استراحة للتفكير، ولكن لمَ ترغب الإدارة في الانتظار؟ تلقينا إشارات شتى، واتضح لنا أن المتشددين ازدادوا نشاطاً.

نتيجة لذلك خسرت علاقاتنا زخمها، فعرفنا أن بعض أعضاء الإدارة كانوا يحضون بوش على مواصلة لعبة الانتظار، لذلك كانت الرسالة التي تلقيناها في شهر سبتمبر عام 1989 مهمة: الرئيس مستعد للقائنا في نقطة وسط حتى قبل تبادلنا الزيارات الرسمية.

يمكننا أن نصف بدون أي مبالغة ما حدث خلال قمة مالطا في شهر ديسمبر ذاك بالإنجاز التاريخي، وعلى خلفية التبدلات المضطربة في أوروبا الوسطى والشرقية وتسارع عملية توحيد ألمانيا، بما فيها تحطيم جدار برلين، أعلن بوش: «سأسير بحذر»، وأضاف: «لن أقفز على الجدار، إلا أن الرهانات كبيرة جداً».

عندما التقى الوفدان، وضع بوش خطوطاً عريضة لبرنامج التعاون بين بلدينا في مجالات عدة، منها نزع السلاح الذي كان بناء عموماً، فرددت عليه بإعلاني: «يجب أن يدرك الرئيس الأميركي الجديد أن الاتحاد السوفياتي لن يعمد في ظل أي ظروف إلى شن حرب... علاوة على ذلك، الاتحاد السوفياتي مستعد لعدم العودة لاعتبار الولايات المتحدة عدواً، ومستعد أيضا أن يعلن ذلك على الملأ». لم تكن هذه ملاحظة مرتجلة، بل شكلت بدلاً من ذلك موقفاً أيدته القيادة السوفياتية، وواصلنا حوارنا مع الرئيس الأميركي بهذه الروح.

أقفلت قمة مالطا الباب على الحرب الباردة، واتضح هذا الواقع جلياً عندما اكتسبت الأحداث في أوروبا الوسطى والشرقية وعملية الوحدة الألمانية سرعة أكبر، وبالعمل معاً، نجحنا في إبقائها على درب السلام.

بعد بضعة أشهر واجهنا اختباراً آخر: عزو صدام حسين الكويت ومحاولة نظامه ضم ذلك البلد، فأظهرت هذه الأزمة أن الحرب الباردة باتت جزءاً من الماضي، فقد تبنى الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة موقفاً مبنياً على مبادئ، كان من الضروري الرجوع عن الاعتداء، لكننا لم نشهد أي احتلال أميركي للعراق ولا أي «تغيير للنظام».

حدث كل هذا حتى عندما اتخذت التطورات في بلدي تبدلاً مأساوياً، فيما كان ينتقل إلى الديمقراطية واقتصادات السوق، فقد تعرضت مقاربة الخطوة تلو الأخرى إلى الإصلاح لهجوم من أطراف مختلفة: لا ممن أرادوا وقف العملية الديمقراطة وإعادة الساعة إلى الوراء فحسب، بل أيضاً من الانفصاليين الذين سعوا إلى تقطيع أوصال البلد وحظوا بالدعم ممن تملكهم الغضب في روسيا.

في ظل هذه الظروف، اعتبرتُ أن من الأهمية بمكان أن أكوّن فكرة واضحة عن نوايا الولايات المتحدة، لذلك طرحتُ هذا السؤال بكل صراحة على الرئيس الأميركي عندما التقيته في لندن في شهر يوليو عام 1991 خلال قمة الدول السبع التي دُعي إليها رئيس الاتحاد السوفياتي للمرة الأولى.

أجابني بوش: «أعتقد أن نجاحكم يتوافق مع مصالح الولايات المتحدة العميقة، فمن مصلحتنا أن تتمكنوا من حل المشاكل في العلاقات مع الجمهوريات، فلا يخدم انهيار الاتحاد السوفياتي مصالحنا»، ومع أن شركاءنا الغربيين أخفقوا في قمة الدول السبع في اتخاذ خطوات ملموسة لدعم التحولات في الاتحاد السوفياتي، أخذت ملاحظات جورج بوش على محمل الجد.

خلال زيارته الاتحاد السوفياتي بعد أقل من أسبوعين، خضنا حواراً جدياً وشاملاً، فلم نكتفِ بتوقيع معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية بل عقدنا أيضاً حواراً غير مسبوق عن نظام الأمن الدولي المستقبلي الذي سيولد نتيجة الجهود المتضافرة.

لكن ذلك الاحتمال تبدد نتيجة محاولة الانقلاب في الاتحاد السوفياتي في شهر أغسطس عام 1991، صحيح أن الانقلاب الذي نظمته قوى رجعية أخفق، إلا أنه أضعف موقفي كرئيس للاتحاد السوفياتي، ولم ننجح في الحفاظ على الاتحاد.

ما زلتُ أذكر بوضوح حديثنا عبر الهاتف في 25 ديسمبر قبل بضع ساعات من تنحيّ كرئيس للاتحاد السوفياتي، راجعنا نتائج تعاوننا، وكان إنجازنا الرئيس اتفاقنا على تدمير آلاف الأسلحة النووية، الاستراتيجية منها والتكتيكية. ومعاً ساهمنا في إنهاء صراعات في أجزاء مختلفة من العالم، كذلك مهدنا الدرب أمام شراكة بين بلدينا.

لكن هذه النتائج التاريخية مهددة اليوم، ويقف العالم على شفير مواجهة جديدة وسباق تسلح آخر، فبعدما تركنا أنا وجورج الحكومة، ناقشنا غالباً التيارات المخيفة التي تهدد السلام العالمي. صحيح أننا اختلفنا أحياناً في تقييمنا الأحداث، غير أننا اتفقنا على نقطة واحدة: لم تشكّل نهاية الحرب الباردة انتصار أحد الطرفين على الآخر، بل كانت نتيجة جهود مشتركة، واليوم أيضاً الجهود المشتركة وحدها تستطيع منع مواجهة جديدة وخطر حرب مدمرة، معيدة بالتالي احتمال بناء نظام عالمي جديد، نظام أكثر أماناً، وأكثر إنصافاً، وأكثر إنسانية.

* ميخائيل غورباتشوف