بالنسبة إلى المحافظين المعارضين ليسار الطبقة العليا الذي يبدو غالباً غافلاً عن تأثير سياساته المخلة بالسوق وخططه الضريبية الرجعية في المواطن العادي، يحمل أصحاب السترات الصفراء في فرنسا الكثير مما يروق لهم، فحركتهم عفوية وطبيعية.

للسترات الصفراء أوجه كثيرة، إلا أنهم لا يعارضون الضرائب بالتأكيد، ولا شك أنهم لا يؤيدون نوع الحكومات الأصغر الذي تدعو إليه حكومة ماكرون، فعقب إعلان أن السترات الصفراء أرغموا الرئيس الفرنسي على تعليق تطبيق ضريبته على الوقود ستة أشهر، عكس كلام المتحدث باسم هذه الحركة نبرة تحدٍّ، فقال: "مطالبنا أكبر من قرار التأجيل هذا، نريد توزيعاً أفضل للثروات وزيادة في الرواتب".

Ad

صحيح أن معظم مئات الآلاف الذين نزلوا إلى الشارع للتظاهر ضد مبادرات ماكرون الخضراء كانوا سلميين، إلا أن مَن لم يكونوا كذلك بدوا عنيفين على نحو مخيف، فخلال الأسبوعين الماضيين شهدت باريس أسوأ موجة من العنف والشغب في الشوارع منذ عام 1968، فأحرق المتظاهرون مئات السيارات، وأضرموا النار في مبانٍ تاريخية، ونهبوا المتاجر، واعتدوا على رجال الشرطة الذين اضطروا إلى استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم الماء ضد المشاغبين. نشروا أيضاً الحواجز في الطرقات، وخربوا نصباً، ومنعوا دخول مخازن ومحطات الوقود، وخاضوا معارك كر وفر مع الشرطة ورجال الأمن الفرنسيين، ونتيجة لذلك تعرض ما لا يقل عن 133 شخصاً لإصابات خلال أعمال العنف هذه، وتوفي أربعة، وأوقف أكثر من أربعمئة حتى يوم الاثنين.

قد تحظى الأزمة الحقيقية الأولى التي تواجهها هذه الرئاسة اليسارية الوسطية من برجها العاجي بترحيب كل مَن يتوق إلى رؤية ماكرون البارد والمتعالي مرغماً على العودة إلى أرض الواقع، لكن إرغام الرئيس على التواضع والحكم كشعبوي يختلف كل الاختلاف في فرنسا عما هو عليه في الولايات المتحدة، وسيقود إلى سياسة لا يرحب بها أميركيون محافظون كثر، بالإضافة إلى ذلك، قد لا تقود غنائم هذه المعركة بالضرورة إلى حزب يميني وسطي مسؤول، فاليمين الوسطي المسؤول في فرنسا ما زال غائباً.

لن يحقق هذا الاضطراب أي هدف غير تعزيز اليمين الوطني بقيادة مارين لوبان، إذ سجل حزبها نتائج قريبة من حزب ماكرون قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي في شهر مايو عام 2019، ويعمل أعوانها بدأب لاستمالة السترات الصفراء، حتى إن لوبان اتُّهمت بحض أنصارها على ممارسة العنف، ولا شك أن رؤية حزبها عن فرنسا (المعادية للأسواق المفتوحة، والهجرة، والتكامل القاري والمؤيدة للحمائية، والدولة المخصصة لفرنسيي المولد، والمراجعة التاريخية لمرحلة التعاون مع العدو خلال عهد فيشي) لا تُعتبر "محافظة" وفق مفهوم ريغان.

لا يدور الانقسام السياسي الكبير في أوروبا اليوم بين اليمين واليسار، بل بين القومية-الشعبوية والتكنوقراط. صحيح أننا نستطيع توجيه انتقادات كثيرة للنخب المتعجرفة، التي أعماها التزامها العقائدي بمحاربة انبعاثات غاز الدفيئة عن رد الفعل العنيف المحتمل بين مَن باتت كلفة معيشتهم باهظة جداً، إلا أن هذا لا يجعل خصومها الشعبويين مرغوباً فيهم.

حوّل ماكرون حكومته إلى نقيض حركة النجوم الخمسة المعادية للنخب في إيطاليا، هذه الحركة التي فازت بالحصة الأكبر من الأصوات في شهر مايو مع برنامج معادٍ للوحدة الأوروبية ومثقل بالمشاعر المناهضة للهجرة والإصلاحات البيئية الجذرية، مثل القضاء على كل استعمال للوقود الأحفوري. قبل أيام، عمد وزير الصحة الإيطالي، الذي يشكك في فاعلية اللقاحات، إلى صرف كامل مجلس المستشارين الحكوميين المعنيين بالسياسة الصحية، ويخطط لاستبدال الخبراء التقنيين والعلميين الثلاثين هؤلاء "بشخصيات مؤهلة أخرى" يعتقد النقاد أنها تشاطره معتقداته الخرافية، وهكذا عندما لا تكون حركة النجوم الخمسة مشغولة بتهديد تصنيف إيطاليا الائتماني بغوصها في إنفاق يعزز عجز الحكومة هدفه تحفيز الاقتصاد الإيطالي السقيم، تمهد لإثارة أزمة صحية عامة لا مفر منها على ما يبدو، ويُعتبر هذا كافياً بالتأكيد ليُظهر التكنوقراط الفرنسيين بمظهر الحذر العاقل.

يستطيع اليمين الأميركي أن يفرح بالضربة القوية التي وجهتها حركة السترات الصفراء إلى ماكرون والضرائب الاستهلاكية المتهورة التي تؤيدها حكومته، ولكن يجب ألا تكون فرحته كبيرة، فلا يحقق المحافظون أي مكاسب من هذه المعمعة. على العكس، يهللون لهذه الحركة الاشتراكية العشوائية العنيفة على حساب تماسكهم الفكري الخاص.

* نواه روثمان

*«كومانتري»