لم يكن بلاغ البنوك الكويتية المحال إلى وحدة التحريات المالية بشأن تضخم حسابات مجموعة من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي صادماً إلى حد كبير؛ لأن ما أثير في البلاغ مطروح على شكل تساؤلات منذ مدة طويلة في أوساط المجتمع الكويتي، وخصوصاً فيما يتعلق بحجم المبالغ التي يتقاضاها نجوم السوشيال ميديا مقارنة بالخدمات التي يقدمونها.

إلا أن هذا البلاغ جدد الذاكرة بشأن قضايا تتعلق بإخفاق مؤسسات الدولة في التصدي لقضية الإيداعات المليونية التي شكّلت قبل 7 سنوات واحداً من أكبر الملفات سخونة في تاريخ الكويت.

Ad

فقضية الإيداعات المليونية بكل ما حملته من فضائح مالية وسياسية حدثت في وقت كانت البنية التشريعية والقانونيةـــ كما قيل ــــ قاصرة، أما «إيداعات» السوشيال ميديا فحدثت بعد سنوات مما يفترض أن العديد من مؤسسات الدولة قد فهم الدرس، وبمعنى أكثر وضوحاً، بعد صدور القانون رقم 106 لسنة 2013 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، الذي كان أساس فلسفته تجاوز القصور القانوني الذي شاب ملف الإيداعات المليونية قبل ذاك الوقت، ومن ثم فإن حدوث «إيداعات» أخرى، حتى لو كانت من فاشينستات لا سياسيين، يفتح الباب حول مدى جودة القانون أو على الأقل جدية تطبيقه.

عبء المكافحة

وحسب القانون 106 لسنة 2013، فإن عبء مسائل مكافحة الأموال المشبوهة من الساسة إلى مشاهير التواصل الاجتماعي يتعدد بين 3 جهات، هي الهيئة العامة لمكافحة الفساد ووحدة التحريات المالية وبنك الكويت المركزي، وهذه الجهات الثلاث، رغم ما تمتلكه من صلاحيات قانونية وفنية في تحليل العمليات المالية المشبوهة، لم تتمكن من رصد حركة رؤوس الأموال غير الطبيعية في العديد من المصارف الكويتية سواء فيما يتعلق بالسوشيال ميديا، أو مثلاً، في قضية الضيافة الخاصة بوزارة الداخلية، وفي كل حالة ثمة اختراق لقواعد مصرفية يفترض أنها باتت من الماضي بعد قضية الإيداعات المليونية.

وفي الحقيقة، فإن ما عرضته هيئة مكافحة الفساد العام الماضي في معرض تحرياتها لمجلس الأمة في قضية الإيداعات المليونية يشير إلى وجود بعض النواقص في البيئة التشريعية والقانونية، فضلاً عن قصور الإجراءات الفنية، كحاجة بنك الكويت المركزي، مثلاً إلى تعديل قانونه رقم 32 لسنة 1986، ليصبح أكثر صرامة في مراقبة حركة رؤوس الأموال بما لم يتطرق له قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، أو الحاجة لتشريع قوانين أخرى كقانون حق الاطلاع على المعلومات، أو قانون شفافية مجلس الأمة ونزاهته مع الأخذ بعين الاعتبار محدودية العائد من التشريع، ما لم يكن الإعداد على درجة عالية من المهنية، فضلاً عن جدية التطبيق، وأن الجهة المناطة مباشرة بعمل دور استخبارات حركة الأموال في البلاد، وهي وحدة التحريات المالية، شهدت منذ مدة ليست طويلة حالة من عدم الاستقرار في تعيينات قيادييها، ربما أثرت بشكل ما على كفاءة الوحدة وقدرتها على ممارسة صلاحياتها.

عميل خطر

ولأن هناك تصنيفاً يطلقه بنك الكويت المركزي في تعاملاته مع البنوك، وهو «عميل خطر» ويشمل الأشخاص المشكوك في حركة حساباتهم أو يتوقع أن تكون عليها بعض العمليات المشبوهة وهي مرتبطة أكثر ما تكون بعمليات غسل الأموال أو تمويل الإرهاب ومع تنامي حركة الأموال من مواقع التواصل الاجتماعي، فإن هناك حاجة لإعادة تعريف خطورة العميل ومعرفة مصدر إيداعاته، فضلاً عن اتساقها ومنطقيتها مع ما يقدمه من خدمات تسويقية أو إعلانية، مع أهمية تعزيز دور البنوك في التصدي لأي تعاملات مشبوهة عبر تعزيز آليات المتابعة أو الغرامات للمتخلفين عن المتابعة.

سيادة الكويت

وفي محيط إقليمي متوتر، فإن خطورة حركة الأموال غير الطبيعية تتجاوز جرائم غسل الأموال أو تبييض العمليات غير المشروعة إلى ابتزاز للكويت عبر محاولات البعض لتنظيم حملات مباشرة أو غير مباشرة هدفها الضغط على الموقف الرسمي وتوجيه الرأي العام نحو هذه الدولة أو تلك، مما يجعل أموال بعض الدول تتحكم في القرار الكويتي أو على الأقل الرأي العام، فضلاً عن إمكانية شراء مشاهير بهدف خلق صوت كويتي لمصلحتهم بما يناقض التوجه العام للسياسة الخارجية، وهذا مشهد غير افتراضي، إذ يمكن رصده بوضوح في العديد من حسابات التواصل الاجتماعي التي تزيد مثلاً نار الأزمة الخليجية حطباً متجاهلة الحياد الكويتي فيها، وسط ما يثار عن تلقي هؤلاء المشاهير مبالغ فلكية، وهو ما فتح المجال لمحاولات جعل الساحة الكويتية منطقة ساخنة لنزاعات الآخرين بصورة لا تقبلها قواعد السيادة والاستقلالية.

شرعنة الإيرادات

أموال السوشيال ميديا ليست قضية محلية بل هي جزء من توجه عالمي باعتبارها من مصادر الإيرادات الشرعية، وهو أمر مقبول لو دخل محلياً في دائرة التنظيم أو التشريع، فضلاً عن أنها عالمياً تبدو أكثر شفافية لارتباط إيراداتها بمصروفات الضريبة، أما في الكويت فإن هناك فوضى كبيرة في هذا القطاع الذي يتصاعد فيه التدليس من الغش في السلع والبضائع إلى تبني قضايا إقليمية لا مصلحة للكويت بها، مروراً بمعارك سياسية تروج فيها الفاشنستات للوزراء والنواب وغيرهم، وهو ما يستدعي ربما على صعيد ذي صلة وعياً أكبر من جمهور المتلقين لنبذ أصحاب السلوكيات المشينة وعدم التفاعل معهم.

لا شك أن تكرار وجود إيداعات «غير طبيعية» في حسابات بعض المشاهير يفتح الباب حول مدى جدية الدولة في الرقابة على حركة الأموال في النظام المصرفي، وهو أمر سلبي للكويت ومضر للتصنيف الائتماني، ويقلل من جاذبية الاقتصاد وتنافسيته، ويخفض من ثقة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال التي تستهدف دولاً تحظى ببيئة خالية، أو على الأقل، مقاومة للشبهات المالية والمصرفية مهما كانت طبيعتها.