سقط خبر وفاتها كما كل الأخبار بين سيل من وصلات الردح والرقص والتفاهات التي تزدحم بها وسائل التواصل بيننا، لم يسقط سهواً هذه المرة، بل جاءت ورقة النعوة سوداء ككل إعلانات العزاء، ومتوجة بتلك الآية نفسها: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".

وقفت عند الخبر لحظات كدت أصرخ من الوجع رغم أنني وهي لم نلتقِ منذ سنين إلا في تقاطعات الزيارات العائلية في المناسبات الحزينة مثل التعازي بوفاتها الآن. هي لا تزال صورة من صور الطفولة في المحرق لا يمكن أن تسرقها الأيام ولا التشرد والتنقل في بقاع الأرض الواسعة، ولا المدن المهدمة والأخرى المزينة بأنوار من الفرح. صور تبعد عن الذاكرة ربما لسنين وفي لحظة كمثل هذه التي قرأت فيها الخبر، تقفز وكأنها كانت بالأمس... تقف هي الطفلة بحوش بيت العائلة تنادي علي فأنظر من السطح، حيث كان القسم الخاص بعائلتنا وأجري سريعا، نمسك بأيادي بعضنا ونجري بين الأزقة المليئة بروائح الأكل الطيب أو البخور والعود أو حتى تلك القادمة من محلات البقالة بكل أنواع البهارات. نبعد قبل أن تكتشف الأم أو الجدة أن تلك الطفلة خرجت دون إذن، لم يكن معتاداً أن يخرج الأطفال دون إذن مسبق، لم يكن للأطفال خاصة الفتيات مكان للعلب أفضل من حوش "البيت العود" فيلعبن "السكينة" أو غيرها من اللعب التي توصف بالنعومة المناسبة لهن.

Ad

تتعرج الأزقة بين حائط منزل وآخر وفجأة ينتهي ذاك "الداعوس" إلى فضاء البحر وعند حافته منزل بشرفات محيطة بكل الغرف لا يكدر خدرها ذاك سوى نسمة رطبة، وبعض النوارس المتربعة على الصخور المواربة بين الموج،

تمسك هي الأكثر جرأة حينها بيدي، وتأخذني نتسلق السلم سريعا إلى ذاك المنزل الذي تحول مؤخرا إلى متحف، ربما كنا، أنا وهي، الوحيدات من الطفلات اللاتي تجرأن على اقتحام تلك المساحة، حيث تسكن تلك السيدة الجميلة، أو هكذا كنا نتصورها، وكانت شديدة الطيبة، فكلما زرناها أخرجت من تحت السرير الحديدي بغرفتها صينية مليئة بكل ما لذّ وطاب من الحلويات الملونة، تحمل كمية بيدها وتضعها في كف كل واحدة منا، كم كنا نتمنى أن تحمل أيادينا الصغيرة كميات أكبر! كم كنا نضحك بعدها ونجري نداعب الريح اللاعبة بتلك الشرفات المشرعة على البحر الممتد لا يعكر صفوه إلا سفننا الشراعية "البوانيش" كما كنا نتصور اسمها أو سمعناه من بعض الكبار!

تمر اللحظات سريعة ونحن منغمستان في ألعابنا الصغيرة مثلنا، هي كانت مليئة بالبراءة، تجلس تلك السيدة الجميلة بثوبها الناصع البياض تراقبنا بنظرات مليئة ربما بالفرح ربما بالحسرة لم نكن نكترث، لم يكن يعنينا منها سوى شرفات منزلها، مساحات لعبنا ولهونا البريء وتلك الحلويات الملونة في الصينية تحت السرير الحديدي، فوق السرير شراشف زرقاء ربما أو هي تفاصيل يرسمها الخيال عندما تخونه الذاكرة، أو حتى عندما نكتشف أننا في طفولتنا لم نكن نكترث للتفاصيل أحيانا خاصة الماديات منها، شراشف زرقاء مطرزة بورود بخيوط بيضاء وتبدو متناسقة مع ثوبها الأبيض وظفائرها بشعرها كاحل السواد وعينيها السوداوين أيضا.

عندما يدركنا الوقت نجري خوفا من القادم، وفي كل مرة نعرف أن العقاب شديد، ولكن مذاق الحلويات تحت اللسان يبقى هو الأقوى والأكثر إغراءً، تنادينا تلك النسمة المعطرة برائحة آخر موجة احتضنت جدران ذاك البيت، فما نلبث حتى نعود لما يسميه أهلنا حينها "الشيطنة"، لم يعرفوا كيف سيتحول أطفالنا إلى شيطنات مختلفة، أين منها تلك البراءة الدائمة التي لا تتلوث ولا تتبدل؟

هكذا سقط خبر نعيها كالطوفان، بل كالإعصار فيما انهارت الصور مع كثير من الدمع الدافئ، لم ألتقها منذ سنين طويلة، بل أكاد أقول إنني فقدتها بعد تلك السنين الأولى، ولكن بقيت هي في أجمل مكان بمساحات الذاكرة المكتظة بكثير من الصور الحزينة والأخرى المزعجة، بقيت هي في فضاءات البراءة التي لم يستطع كل ذاك القبح القادم أن ينهيها، بل كالجوهرة أو الدانة تلمع بنقائها كلما كشف عنها الغطاء، ترحل هي وتبقى تلك الصور أو بقاياها.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية