يمكنك في كييف صعود السلالم من محطة المترو لتبلغ ساحة شهدت ثلاث ثورات في ثلاثين سنة، فضلاً عن عدد من التظاهرات، الكبيرة منها والصغيرة. ومع معالمها ونصبها التذكارية وبضعة رجال بزي باندا، تحوّل ميدان الاستقلال في كييف إلى رمز لأوكرانيا العصرية.

Ad

تظاهرات

في مثل هذا الشهر قبل خمس سنوات، بدأت سلسلة من التظاهرات في الميدان حفّزها تجاهل يانوكوفيتش اتفاقاً بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وبعد أربعة أشهر ومقتل أكثر من مئة شخص، هرب يانوكوفيتش إلى روسيا ليلي ذلك ضم بوتين القرم وغزو بالوكالة لشرق أوكرانيا، ولا تزال الحرب مع القوات التي تقودها روسيا في شرق أوكرانيا مستمرة حتى اليوم، مشكّلةً خلفية دموية لاستعدادات أوكرانيا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في العام المقبل.

في هذا الميدان، قد يقترب منك بائع متجوّل يعرض عليك أسوار يبيعها ليجمع المال للجنود الذين ما زالوا يحاربون ضد القوات المدعومة من روسيا في شرق البلد في صراع حصد نحو 10 آلاف قتيل منذ عام 2014.

ألكسي (31 سنة) أحد هؤلاء الباعة، تطوع هذا المحامي لبيع الأساور بغية جمع المال لمعالجة الجنود المصابين في مستشفى محلي. يقول: «سئم الناس الوضع برمته».

في الطرف الآخر من الميدان، أُقيم مركز شبابي متعدد الأهداف يستطيع فيه المراهقون، من بين أمور عدة، التمرن والمشاركة في محاضرات عن شخصيات أوروبية من اليمين المتطرف.

يُشار غالباً إلى أن قوى اليمين المتطرف تحظى بدعم عام محدود جداً، على سبيل المثال، حصل الفيلق الوطني على نسبة ضئيلة جداً في استطلاع للرأي أُجري أخيراً بلغت 0.1 في المئة، لذلك، من غير المرجح أن يقترب حتى من البرلمان الأوكراني في انتخابات السنة المقبلة.

لكن الطريقة التي نجحت بها هذه القوى المتطرفة في التغلغل في عالم تطبيق القانون (شاركت في عدد من المدن، منها كييف، في عمليات الشرطة ودورياتها) خطيرة بالتأكيد، مع أن البعض يعارضون هذه الفكرة. يذكر فولوديمير إيشينكو، عالِم اجتماع ومحاضر في معهد بوليتكنك كييف، أن قوى اليمين المتطرف، مثل حركة آزوف، استغلت ضعف دولة أوكرانيا، فتعمل من دون أي ضوابط عموماً، وتهدد حقوق الأقليات مثل الرومن، المثليين، والمتحولين، والمزدوجي الميول في أوكرانيا. والأسوأ من ذلك، وفق إيشينكو، أن الكثير من داعميها المحليين والدوليين يحاولون التخفيف من أهمية هذه المشكلة لأنهم يخشون أن يعزز ذلك دعاية الكرملين الذي يروج لفكرة أن الفاشيين واليمين المتطرف يديرون أوكرانيا.

إذا بدا أن معظم المارة لا يكترثون بهؤلاء المراهقين وبصحفهم اليمينية المتطرفة المجانية، فيعود ذلك إلى أن لديهم مشاكل كثيرة أخرى يقلقون حيالها. فأشخاص مثل تلك الجدة التي تلتقط صورة حفيدتها وهي تحاول صعود تمثال كوساك ماماي، البطل الشعبي والمحارب والمدافع الأوكراني، أكثر انشغالاً بمشاكل الفساد، ورواتب التقاعد، وارتفاع الأسعار. وكشف استطلاع للرأي أُجري أخيراً أن هذه المشاكل أوشكت أن تتفوق في عقول المواطنين على الحرب في شرق أوكرانيا لتصبح التحدي الأكبر الذي يواجهه هذا البلد.

مشكلة مزمنة

يشدد ناشطون أمثال يوراش على أن الفساد ما زال مشكلة مزمنة في أوكرانيا، فرغم الضغوط الدولية لمعالجة الفساد المتفشي في البلد بجد، ذكر الأوكرانيون في أحد استطلاعات الرأي أنهم يواجهون الرشوة اليوم أكثر مما اعتادوه في عام 2015. ويعتبر يوراش أن السياسيين الأوكرانيين أخطأوا بإخفاقهم في أخذ المعركة ضد الفساد على محمل الجد وفشلهم في بناء دولة أوكرانية جديدة تتلاءم مع ما أمله هو وغيره ممن شاركوا في الثورة.

يوضح يوراش: «كان أمام هؤلاء فرصة لأن يصبحوا أمثال جورج واشنطن في أوكرانيا، لكنهم ضيعوها».

رغم بعض التقدم المحرَز، لا يزال الاقتصاد الأوكراني ضعيفاً، وتشير دراسة حديثة نُشرت في مجلة Credit Suisse إلى أن أوكرانيا من بين الدول الأسوأ من حيث متوسط قيمة مواطنيها الصافية، لذلك يغادر أوكرانيون كثر، وخصوصاً الشبان منهم، البلد للعمل في الخارج، وفي استطاع أُجري في مستهل هذه السنة، تبين أن أقل من واحد من كل خمسة أوكرانيين تحت ست الخامسة والثلاثين شعر أنه يملك مستقبلاً جيداً في أوكرانيا.

أكّدت ماريا (20 سنة) وهي تعمل وراء منضدة لبيع القهوة فيما راحت في الميدان في الخارج مجموعة متنوعة من الشبان الأوكرانيين في زي باندا وشخصيات كرتونية أخرى تزعج السياح لالتقاط صور «السلفي» والحصول على قليل من المال الذي يساعدها في مواجهة مشاكلها: «أريد أن تتمتع أوكرانيا باقتصاد جيد».

استمرار النضال

يبدو أن الأمل بدأ ينفد. ولكن حتى النقاد أمثال يوراش يعبرون عن تفاؤلهم وإن بغضب. يقول، مشيراً إلى زملائه الناشطين الذين وقفوا إلى جانبه في الميدان: «لم يختفِ أصدقائي وزملائي الذين عملنا معاً قبل خمس سنوات. ما زال يناضلون».

أمضت كاترينا كروك (27 سنة) أكثر من ثلاثة أشهر في الميدان، 93 يومياً بالتحديد، حسبما تقول. وقد ذاع صيتها لنقلها مباشرةً بالصور والتغريدات التظاهرات أثناء حدوثها. تتحدث كورك بصراحة عن الصراع الذي خاضته هي وأوكرانيون آخرون في أعقاب ثورة 2014 والحرب المتواصلة في شرق أوكرانيا. تخبر أنها شعرت أحياناً بأنها «تغرق في ذكرياتها... في مياه مظلمة» بسبب ما شهدته واختبرته بعد رؤيتها الجثث في الشوارع ومقتل أصدقاء لها على أيدي قوات تدعمها روسيا في شرق أوكرانيا.

مع أن أوكرانيا الجديدة التي ناضلت في سبيلها هي وآخرون تبدو أحياناً أشبه بحلم ومع أن أصدقاءها ما زالوا يخوضون حرباً، لن يستسلم الناشطون أمثال كورك. تصر هذه الناشطة على أن الثورة لم تفشل مطلقاً رغم مرور خمس سنوات وأنها لم تنتهِ بعد.

تجيب كورك بعد سؤالها عن نجاح الثورة أو بالأحرى غياب هذا النجاح رغم مرور خمس سنوات: «لم يخب أملي، ولن يخيب البتة».