بعد سقوط النظام العراقي السابق في عام 2003، توجهنا كفريق دولي للتقصي عن الأوضاع الإنسانية للمدنيين والبحث عن الأسرى، وحينها، رغم خطورة الوضع، تمكنا من التدخل في حالات كثيرة، وكشف ما كان يدور للعالم.

بعد زيارات وجولات مكثفة في مناطق النزاع، ومعاينتنا لانتهاكات جسيمة لقواعد الحرب، ولاتفاقيات جنيف، والقانون الدولي الإنساني، خاطبنا قوات التحالف، واجتمعنا مع أركان قياداتها، وطالبناهم بالالتزام بتلك المبادئ، وتصحيح الأخطاء، وحماية المدنيين.

Ad

حصلنا حينها على تطمينات من أعلى مستوى في قوات التحالف، إلا أن مشاهداتنا على الأرض كانت تتناقض تماماً مع تلك التعهدات، وعندما زادت الشكاوى وتواترت، صرحت مسؤولة السجون حينها، جانيس كاربنسكي: "إننا نعامل المساجين بإنسانية وعدالة"، وحقيقة الأمر أنه لم تكن هناك إنسانية ولا عدالة.

اتضح ذلك في تقرير سنة 2004 الذي نشرته وكالة أب الأميركية حول فضائح التعذيب في سجن بوغريب، تبعها البرنامج التلفزيوني الشهير "ستون دقيقة"، ثم انبرى لها الصحافي الأشهر سيمور هيرش في مجلة نيويوركر، لينشر تقريره عما جرى ويجري في سجن بوغريب، بل وفي كل السجون الخارجية، فتحولت القضية إلى شأن دولي، وحاولت وزارة الدفاع إعاقة النشر بجميع الوسائل، وحجتها التقليدية أن نشر تلك الصور الفظيعة سيضر بالأمن القومي الأميركي، وسيلهب الرأي العام العالمي.

وبعد معارك إعلامية وقانونية طاحنة داخل أميركا، تم كشف المستور، وحكمت المحكمة لمصلحة نشر كل الصور، فكانت الحصيلة نشر 1325 صورة، و93 فيديو، و660 صورة ممارسة جنسية واغتصاب للسجناء والسجينات، و546 جثة، وغير ذلك من البشاعات التي يخجل أي إنسان سوي من ذكرها، فما بالك بمشاهدتها؟ حينها بدأ الإنكار في التراجع، وعندما نُشِرت الفضيحة بالصوت والصورة كان تعليق رامسفيلد: "كيف تسربت تلك الصور؟"، كان اهتمامه منصباً على كيفية تسريب المعلومات، ومن سربها.

في إحدى الحلقات النقاشية في واشنطن دي سي، سألت قيادياً عسكرياً أميركياً متقاعداً، كان له دور بارز في إعادة إصلاح الترهل في الجيش بعد فضيحة بوغريب، "كيف يمكن لجيش نظامي محترف لوجستياً وإدارياً وتراتبياً أن يرتكب مثل هذه الانتهاكات السائبة؟ نتوقع ارتكاب هذه الأفعال الشائنة من ميليشيات "جيش الرب" في أوغندا مثلاً، أما الجيش الأميركي فيفترض أن هناك قدراً من الانضباطية، فلم أفهم لماذا يصور ضباط وعساكر أميركان مبتسمين إهاناتهم للضحايا العرايا والمنتهكة آدميتهم، فهل يمكن أن يكون ذلك من ضمن التعليمات؟".

قال القيادي العسكري: "ما حدث كان أمراً فظيعاً، لا يمكن السكوت عنه، وواجب الجيش الأميركي كبير، وكان لابد من محاسبة القائمين على ذلك، وهو ما تم، ولكن الأهم هو إعادة هيكلة قواعد العمل، لكي لا تتكرر تلك الفضيحة مرة أخرى". وشرح لي بهدوء شديد ما قاموا به كأجهزة لإصلاح الوضع، واعترف، بأنه "لولا الضغط الإعلامي والدولي لما نجحنا في إصلاح الأمور، فالتيار المضاد للإصلاح كان قوياً".

ليس الهدف إعادة فظائع بوغريب، ولكن تبيان أن هذه الدراما المأساوية مازالت مستمرة، حتى يومنا هذا، في مجمل بلاد العالم، دون توقف، مهما أنكر ذلك المنكرون.