منذ اندلاع الثورة ضد معمّر القذافي عام 2011، غالباً ما كان الليبيون يلومون الجهات الفاعلة الخارجية على مشاكلهم المتواصلة. وفي كثير من الأحيان، تمت المبالغة في تقدير هذه المظالم واستخدامها كذريعة لتقليل التنازلات الصعبة التي يتوجب على الليبيين أنفسهم القيام بها لتحقيق السلام الدائم. ولكن خلال العام الماضي، تدخّلت فرنسا وإيطاليا إلى حدٍّ أكبر في السياسة الليبية، فأضعفتا مبادرة السلام التي طرحتها الأمم المتحدة بدلاً من أن تدعماها.

ولطالما كانت ليبيا مهمّة لإيطاليا. فهذه المستعمرة الإيطالية السابقة أصبحت اليوم دولة عبور رئيسة للهجرة الأفريقية إلى أوروبا ومورّداً كبيراً للنفط والغاز الطبيعي إلى إيطاليا. يعود اهتمام روما بتلك البلاد الى عامي 2014-2015، عندما بدأ مئات الآلاف من المهاجرين، معظمهم من دول أخرى في أفريقيا، في الوصول إلى ليبيا لمحاولة عبور الحدود إلى أوروبا.

Ad

وقد يكون لسياسة الهجرة الجديدة في إيطاليا تداعيات كارثية على ليبيا، فهذه الأخيرة تستضيف حالياً أكثر من 650 ألف مهاجر، وستحكم حملة القمع الإيطالية الصارمة الجديدة المتخذة ضد الهجرة على بقاء هؤلاء المهاجرين في ليبيا، ما يزيد من سوء الأوضاع المروّعة في مخيمات اللاجئين في تلك البلاد، فيصبح المهاجرون عرضةً لأشكال أخرى من الاستغلال. كما أن الخطوات الأخرى التي اتخذتها إيطاليا أو اقترحتها - بما في ذلك تمويل «حرس خفر السواحل الليبي» لاعتراض المهاجرين في البحر ونشر الجنود الإيطاليين لحراسة طرق التهريب في جنوب البلاد - ستؤدي إلى زيادة الانقسام داخل ليبيا حتى بدرجة أكبر.

وسعت روما أيضاً إلى استلام زمام المبادرة الدبلوماسية - على الأقل علانية. ففي 31 يوليو، زار رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي - البيت الأبيض وأعلن عن خطة لعقد مؤتمره الخاص حول ليبيا في 12 و13 نوفمبر في باليرمو. وأشاد ترامب بالحكومة الإيطالية وقدّر «دور إيطاليا الريادي في تحقيق الاستقرار في ليبيا وشمال أفريقيا».

كان ذلك بمثابة تأييد جوهري لرئيس الوزراء كونتي، الذي يسعى إلى انتزاع صفة «القائد الأوروبي الأهم في ليبيا» من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فمنذ استلام ماكرون منصب الرئاسة ينظر إلى ليبيا كمسرح لإظهار سياسته الخارجية بحسن نية. فقد استضاف في 2017 اجتماعاً في باريس مع رئيس الوزراء الليبي فايز السراج - رئيس «حكومة الوفاق الوطني» المعترف بها دولياً والتي تسيطر على طرابلس بصلاحية فعلية محدودة - ومع القائد القوي لمنطقة شرق ليبيا اللواء خليفة حفتر في محاولةٍ لتنسيق اتفاق لوقف إطلاق النار والتخطيط لإجراء انتخابات وطنية. ومع ذلك، فقد تم تنسيق المبادرة بشكل ضعيف مع المجتمع الدولي، الذي أيّد «خطة العمل» الأكثر شمولاً التي وضعتها الأمم المتحدة وأعلن عنها سلامة في أيلول/سبتمبر 2017. ودعت هذه «الخطة» إلى تحديث اتفاق وقف إطلاق النار المتوقف منذ عام 2015، وعقد مؤتمر وطني شامل، والتوصل إلى اتفاق بين الفصائل المتناحرة في ليبيا حول التوافق على دستور جديد وقانون انتخابي، والتحضير لإجراء انتخابات بحلول نهاية عام 2018.

وخلال العام الماضي، عمل سلامة على جمع الشتات الليبي تحت راية العملية الرسمية للأمم المتحدة. وعلى الرغم من إدّعاء فرنسا بأنها تساعد سلامة، إلّا أن جهودها الدبلوماسية المفتقرة إلى التنسيق تسمح للفصائل الليبية بوضع فرنسا في مواجهة مع الأمم المتحدة وداعميها الرئيسيين في الغرب.

اعتبر كثر بأن الخلاف بين فرنسا وإيطاليا بشأن ليبيا ناتجٌ عن تباعد مصالح البلدين فيها. فالمصالح الاقتصادية لإيطاليا تكمن في طرابلس وغرب البلاد، أي في المناطق الخاضعة لسيطرة «حكومة الوفاق الوطني»، في حين أن فرنسا مهتمة بإستعادة مظهر من مظاهر النظام في جنوب ليبيا الذي ينعدم فيه القانون، لاسيما وأن مزيج المهرّبين والشبكات الإجرامية والإرهابيين يهدد نطاق النفوذ التقليدي لفرنسا في الساحل الأفريقي حيث ينتشر حالياً 4500 جندي تابع لها. ويُفترض أن هذا السبب هو الذي دفع فرنسا إلى تفضيل حفتر باعتبار أنه في وضع أفضل لإعادة الأمن واستئصال الجهاديين من ليبيا.

ومع ذلك، فإن دوافع الخلافات بين فرنسا وإيطاليا ناجمة عن السياسة أكثر من المصالح المتباينة في ليبيا. إذ يعتبر ماكرون نفسه الحامل التقليدي لراية الأمم المتحدة، والمُدافع عن القيم الليبرالية والتعاون الدولي في الوقت الذي تتزايد فيه القومية الشعبوية. وبطبيعة الحال، يرى أن الحكومة الإيطالية الجديدة تشكل تهديداً لرؤيته السياسية.

مؤتمر باليرمو

يتيح مؤتمر باليرمو الدولي الذي سيبدأ في 12 و13 نوفمبر فرصةً لإيطاليا للإسهام في عملية السلام في ليبيا، ولكن فقط إذا عمل كل من كونتي وسالفيني على الإرتقاء بدور الأمم المتحدة وقلّصا منافستهما مع ماكرون. ويبقى النهج الذي تتبعه الأمم المتحدة أفضل فرصة لتحقيق الاستقرار في ليبيا بالرغم من شوائبه. وقد سبق للمبعوث سلامة أن سدّ بعض الثغرات المهمة بين الحكومات المتنافسة في ليبيا وحدّد العثرات المتبقية. ومن شبه المؤكد أن البدء بعملية جديدة وبمبعوث جديد سيؤدي إلى تجدد العنف في غياب المفاوضات. من هنا على إيطاليا أن تدرك أن تعزيز الدور القيادي لسلامة الوسيلة الوحيدة لتعزيز مصالح روما الرئيسة في مجال الهجرة والطاقة.

وثمة مجالات معينة يمكن لمؤتمر باليرمو فيها إحلال السلام. فبعد سنوات من تجاهل ميليشيات البلاد لمصالح البلاد تفاوضت «بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا» في سبتمبر على وقف إطلاق النار بين ميليشيات طرابلس. على إيطاليا مساعدة المجتمع الدولي في تثبيت وقف إطلاق النار والدفع بخطة شاملة لنزع سلاح التنظيمات المسلحة وتسريح عناصرها وإعادة دمجهم. ويمكن الاستعانة بالمؤتمر لوضع آلية لإقامة حوار على نطاق أوسع بين الجماعات الموجودة في طرابلس وخارجها، وتعزيز الدعم الدولي لهذه الجهود.

ومن جانبها، على إدارة ترامب دعم الاستقرار السياسي في ليبيا دون تفضيل أي طرف، سواء كانت فرنسا أم إيطاليا أم غيرها من الأطراف الخارجية مثل مصر أو الإمارات العربية المتحدة. ولا داعي لأن تتصرف الولايات المتحدة وكأنها مسؤولة عن الأزمة الليبية، بل عليها الاضطلاع بدورٍ ما في حلّها. ففي يوليو، على سبيل المثال، عندما استولت قوات حفتر على بعضٍ من احتياطي النفط في ليبيا وهدّدت ببيع النفط دون المرور بـ»المؤسسة الوطنية للنفط» الموالية لـ «حكومة الوفاق الوطني»، أعلنت الولايات المتحدة أن مثل تلك المبيعات تشكل انتهاكاً لقرار الأمم المتحدة وتعرّض المشترين لعقوبات الولايات المتحدة والأمم المتحدة. وقد عزز ذلك شرعية العملية التي تمارسها الأمم المتحدة وأرغم حفتر على التراجع. ولم يكن بوسع روما أو باريس تحقيق مثل هذه النتيجة دون تحذير دبلوماسي واقتصادي من الولايات المتحدة. على واشنطن أن تكون مستعدةً بالمثل لمساعدة الأمم المتحدة في الحفاظ على دورها المحوري في تحقيق الاستقرار في ليبيا، بدلاً من السماح لفرنسا أو إيطاليا بالاستحواذ على دفة القيادة في هذه العملية. وفي هذه الحالة، يتفادى ترامب التورّط بشكل أكبر في السياسة الليبية المختلة بينما يكون قد قدّم مساهمةً إيجابيةً أيضاً.