ذكرت في مقال سابق "النتائج الكارثية للقول بالنسخ في القرآن" 3 نتائج خطيرة أنتجها القول بالنسخ: شرعنة جهاد الطلب (حرب الهجوم) وشرعنة حبس المرأة في البيت، وشرعنة بغض الآخر الديني، لكن أخطرها على الإطلاق، فتح الباب لأكبر المزاعم المثارة حالياً في بعض الفضائيات والمواقع الاجتماعية والصحف للتشكيك في آيات وسور من القرآن، اعتماداً على كتب تاريخ تدوين القرآن الكريم، وذلك من أكبر البلايا الفكرية التي ترتبت على دعوى النسخ، عند العلماء القدامى، فمثلاً يحشد الإمام السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" كمّاً هائلا من الروايات المنسوبة إلى كبار الصحابة، مضامينها: أن هناك آيات وسوراً، سقطت أو نسخت، منها: أن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي 200 آية، فلما كتب عثمان المصحف، لم نقدر منها إلا ما هو الآن! وقول عمر: لا يقولنّ أحدكم أخذت القرآن كله، ما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير! ورواية أن سورة الأحزاب كانت لتعدل سورة البقرة! وعن حُذيفة: ما تقرؤون ربعها، يعني سورة براءة!!

والأعجب ما روي عن ابن عمر، أن رجلين أقرأهما الرسول، عليه الصلاة والسلام، سورة، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فجاءا يسألان الرسول، فقال إنها مما نسخ! وزعم أن (الحفد) و(الخلع) كانتا سورتين، ورفعتا! وهذه كلها نقول مظلمة، فضلاً عن ركاكة أساليبها المناقضة للنظم القرآني البليغ، لكن زعم النسخ هو الذي فتح الباب أمام هذا اللغو الركيك.

Ad

وبلغ بهم الولع بالنسخ، أنهم قسموه 3 أقسام:

1- ما نسخ تلاوته وحكمه، ومثلوا له بحديث عائشة "كان فيما أنزل عشر رضعات يحرمن، نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن".

2- ما نسخ تلاوته دون حكمه، ومثلوا له بآية الرجم "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله".

3- ما نسخ حكمه دون تلاوته، ومثلوا له بـ565 آية منسوخة، لدى بعضهم.

واضح أن هذا التقسيم صناعة فقهية متأخرة، لا سند صحيح له إلا مرويات ضعيفة أو منقطعة أو موقوفة، لا تقوم بها حجة مقنعة، فضلاً عن أنها مرويات أحادية إلى الصحابي، وهو لا يعدو أن يكون اجتهاداً منه، ونحن غير ملزمين به، وذلك للآتي:

أولاً: يجب أن يكون واضحاً ومؤكداً لكل مسلم، أن القرآن الذي بين أيدينا، نقل إلينا بالتواتر اليقيني، أجيالاً بعد أجيال، عبر 14 قرناً، محفوظاً في صدور الملايين، لم يسقط حرف، ولم تنسخ آية، فلا يقبل قول صحابي أو خبر أحادي، يزعم سقوطاً أو نسخاً، لأن القرآن الكريم، عقيدة يقينية، لا يقبل فيه خبر الآحاد الظني، ولأن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، أساساً، لا على خط المصاحف والكتب، وكان العرب مشهورين بالحفظ وقوة الذاكرة.

إن عقيدة المسلمين الثابتة بكل فرقهم أنه لا سقط ولا حذف ولا نسيان ولا سهو في توثيق الكتاب الكريم، ولا يضره شيئ، حديث الشاة التي تسللت وأكلت وريقات فيها آيات، ولا مصحف ابن مسعود الذي خلا من المعوذتين، ولا مصحف صنعاء الذي قيل إن فيه اختلافاً، لأن القرآن كان محفوظاً وموثقاً في صدور آلاف الصحابة، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويسمعونه من الرسول في الصلوات كل يوم، وتكفل المولى تعالى بصيانته "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ".

ثانياً: الله تعالى هو الحافظ لقرآنه "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" و"لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ" فلا يلتفت بعد إلى مرويات مهزوزة.

ثالثاً: القول بالنسخ جرأة على الكتاب الكريم الذي أحكمت آياته، لمجرد توهم وجود تعارض ظاهري بين آيات، أمكن التوفيق بينها، ومن جرأتهم العجيبة، الزعم بأن آية واحدة (آية السيف) نسخت 124 آية تدعو للسلام والتسامح.

رابعاً: لا يوجد حديث واحد صحيح صريح، أن آية نسخت آية.

ختاماً: يبقى القول إن مما يحمد أن معظم المفكرين الإسلاميين المحدثين يرفضون النسخ في القرآن، وعلى المناهج الشرعية تدريسه كتاريخ مضى.

* كاتب قطري