بينما تهيمن مسألة الخلافة على المخاوف العامة في الجزائر، اشتدّت الانقسامات بين أنصار الرئيس الجزائري بوتفليقة ومعارضيه في أوساط النخب السياسية والعسكرية والإدارية والاقتصادية، فقد اتّسمت الولاية الرابعة للرئيس المريض بالصراعات السياسية المستعصية الناجمة عن عدم القدرة على اتخاذ قرار بشأن من يمتلك حق الفيتو في ما يتعلق بالخلافة، وأبرز ما في الأمر أنّ هذا الصراع على السلطة تجلّى في السياسة الداخلية للقوات المسلحة الجزائرية.

وفي هذا الإطار، أثارت التسريحات والتغييرات المتعددة داخل الجيش وصفوفه سؤالاً حول ما إذا كانت هذه التحولات العميقة تعكس الإصلاح المدني- العسكري أو القوة العسكرية التي يتم انتزاعها ترقبًا للانتخابات الرئاسية في أبريل المقبل، وتعتبر هذه التغييرات، التي تثير نقاشًا محتدمًا بعد ولاية رابعة لم تشهد أي نقاش سياسي جدي، تأثيرًا جانبيًا إيجابيًا للانتخابات الرئاسية لعام 2019. ولكن المناقشة ليست سوى الخطوة الأولى نحو الانتقال المحتمل للقيادة في انتخابات العام المقبل، وذلك بعد ركود السياسة الجزائرية لفترة طويلة، ووفقًا للعديد من المراقبين، لا يبالي الجزائريون بشأن الانتخابات بصورة عامة، حيث إنهم يتوقعون دائمًا أن يختار الجيش الفائز.

Ad

%75 يثقون بالجيش

في الواقع، في مسح أجرته شبكة «الباروميتر العربي» في العام الماضي، قال 83 في المئة من الجزائريين إنهم إمّا غير مهتمين أو غير مهتمين على الإطلاق بالسياسة، في حين أعرب 4 في المئة فقط عن اهتمامهم الشديد بالسياسة. وفي الوقت نفسه،

لا يزال ثلاثة أرباع الشعب الجزائري يثقون في القوات المسلحة أكثر من أي مؤسسة سياسية أخرى، ما يساعد على تفسير سبب اهتمام الشعب الجزائري بالتحولات داخل الجيش الجزائري، وعلى الرغم من أن الكثير من الجزائريين لا يزالون غير متأكدين من طبيعة هذه التغييرات، فإنهم يدركون أنّ أيًا كان من سيخرج منتصرًا من صراع السلطة هذا (المعروف باسم صراع الأجنحة) فسيحقّق التغيير الكبير الذي يبحثون عنه.

وحتى عام 1999، عندما تولّى الرئيس بوتفليقة منصبه، كان مصير الجزائر في أيدي مجموعة من الجنرالات الذين سيطروا على معظم جوانب النظام السياسي الجزائري، وأدّى كل من «دائرة الاستعلام والأمن»، وهو جهاز المخابرات الجزائرية، دورًا حاسمًا في تشكيل المشهد السياسي في الجزائر، الذي يشمل تعيين الرؤساء المستقبليين. ولكن، بمجرد توليه المنصب، قام الرئيس بوتفليقة بالمناورة من أجل تقليل سلطة الجنرالات ذوي النفوذ من خلال إعادة تجميع الجيش وأجهزة المخابرات وإعادة هيكلتها. ويشار إلى أنه عندما أحال الرئيس الجنرال محمد «توفيق» مدين عام 2015 من منصبه كرئيس «دائرة الاستعلام والأمن»، أصبحت الدائرة تابعةً للرئاسة، لكن صحة الرئيس المتدهورة قد أوجدت إمكانية عكس هذا التراجع في السلطة العسكرية.

وفي السنوات القليلة الماضية، حلّ الجيش محل «دائرة الاستعلام والأمن» كمحاور رئيس بين الفصيل الرئاسي والجهاز العسكري الأوسع. وأصبح الجنرال أحمد قايد صالح، وهو رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع بحكم الواقع، رجلاً قويًا في الجزائر، حيث مارس نفوذًا كبيرًا على الحكومة أكثر من أي فصيل آخر في النظام. وفي ضوء تدهور وضع الرئيس الصحي، أخافت سلطة صالح المتزايدة الفصائل الأخرى، لا سيّما الفصيل الرئاسي ورجال الأعمال الموالين للنظام، بقيادة الأخ الصغير للرئيس سعيد بوتفليقة، ما أدّى إلى نشوب صراع على السلطة بين هاتين المجموعتين. وفي حين أن الجنرال قايد صالح وبوتفليقة هما حليفان، تسبّب الخلاف حول اختيار الرئيس المقبل في حدوث تنافر وتنافس يهددان بإنهاء شراكتهما.

توتر

أمّا التوتر بين الفصائل الرئاسية والجيش فقد تجلى بطرق مختلفة، ومن بينها إقالة رئيس الوزراء عبد المجيد تبون، وهو المرشح المفضل لدى قايد صالح، مما أضعف موقف هذا الأخير في ما يتعلق بالفصيل الرئاسي وأظهره عاجزًا عن إنقاذ رجله ضمن إطار النظام. كما تجدر الإشارة إلى أن صالح لم يقدّم أي رد فعل عام إزاء عملية فصل تبون.

إلا أنّ الإقالات الداخلية التي قام بها صالح هي خير مثال على التغيرات السياسية في الجزائر، وباعتبار زياراته إلى شتى المناطق العسكرية جزءًا من استراتيجيته لحشد الدعم داخل الجيش، قام صالح بتكثيفها وأشرف على العديد من التدريبات العسكرية، ومن بينها التدريبات البحرية والجوية، من أجل تعزيز الدعم الكبير بين الشخصيات العسكرية الرئيسية تحسبًا للصراعات العسكرية التي قد تنشأ بعد عهد بوتفليقة، وفي هذا الإطار، باشر أيضًا قايد صالح في إزالة أنصار الفصيل الرئاسي داخل الجيش.

ففي مايو، اكتشفت قوات خاصة من البحرية الجزائرية 701 كيلوغرام من الكوكايين في ميناء وهران غرب الجزائر وصادرتها. وتبين في التحقيق الذي أجرته الشرطة الوطنية أن «السائق الخاص» لرئيس جهاز الأمن القومي عبد الغني هامل متورط، وأدّى الضغط المتزايد الذي مارسه صالح على هامل - الذي كان المرشح المفضّل للفصيل الرئاسي لخلافة بوتفليقة العام المقبل – إلى دفع الرئيس بوتفليقة إلى إقالة هامل.

وأثناء الشهرين اللذين أعقبا هذه الحادثة، أدخل قايد صالح إصلاحات شاملة إلى الجيش، وأزال عددًا من الجنرالات الأقوياء من أجل تأكيد هيمنته وإعادة هيكلة الرتب. وشملت عملية «التطهير» اللواء حبيب شنتوف الذي تم إقصاؤه بسبب تورط ابنه في قضية الكوكايين. وعلى نفس القدر من الأهمية كان عزل رئيس «المديرية المركزية لأمن الجيش» محمد تيراش في أغسطس، وكان مسؤولاً عن التحقيق في قضية الكوكايين الذي تم مصادرته في وهران.

وكشف هذا العزل عن ضرورة إعادة تفعيل دور «المديرية المركزية لأمن الجيش»، التي قامت مقام «دائرة الاستعلام والأمن»، التي حلها بوتفليقة في عام 2016. ويُذكر أنّ «المديرية المركزية لأمن الجيش» هي المسؤولة عن التحقيقات ومعالجة المعلومات من الدوائر الأمنية الأخرى والتدخلات الميدانية في الحرب ضد الارهاب ضمن نطاق الجيش الجزائري.

وتزامنت تغييرات قايد صالح رفيعة المستوى مع سفر الرئيس بوتفليقة إلى جنيف لإجراء فحوصات طبية، ما يشير إلى عزمه على ترسيخ قاعدة سلطته كوزير للدفاع بحكم الأمر الواقع تحسبًا لانتخابات أبريل 2019، وذلك باستخدام وضع الرئيس الطبي لمصلحته الشخصية. وقبل ذلك، وفي أعقاب إقالة هامل، حدثت تغييرات مهمة أخرى في 4 يوليو شملت قائد سلاح الدرك الوطني الجنرال مناد نوبة الذي كان ضحية أخرى لفضيحة الكوكايين التي هزت أعلى المراتب في الجيش الجزائري. كما تم فصل مدير الموارد البشرية في وزارة الدفاع الوطني اللواء مقداد بن زيان والمدير المالي في وزارة الدفاع بودوار بوجمعة.

وعلى الرغم من أن الإقالات الأخيرة مرتبطة مباشرةً بفضيحة الكوكايين في ميناء وهران، فإن الإقالات التي تلتها ترتبط بالوضع السياسي للبلاد، وعلى وجه الخصوص التحضير للانتخابات الرئاسية للعام المقبل، وشمل ذلك إقالة أو إحالة القادة العسكريين للمناطق العسكرية الثانية والثالثة والرابعة: سعيد الباي وسعيد شنقريحة وشريف عبد الرزاق تباعًا.

وعلى الرغم من أن قايد صالح صوّر «التطهير» باعتباره يضفي الطابع الاحترافي على الصفوف العسكرية، لاحظ العديد من المحللين الطبيعة غير المسبوقة لنطاقه، واصفًا إياه بأنه أكبر إعادة هيكلة عسكرية منذ الاستقلال الجزائري في عام 1954.

ذريعة غير مقبولة

وقال المحلل الأمني سعيد ربيعة: «لا يقوم أي جيش في العالم بتغييرات مفاجئة وواسعة كتلك التي تم تنفيذها في الجيش الجزائري»، أمّا ذريعة أن الجنرالات متقدمون في السن فليست بمقبولة لأن بدائلهم في معظمهم من الفئة العمرية نفسها، وبالأحرى، تشكّل هذه التغييرات المفاجئة التي حصلت خلال فترة وجيزة في جيش كبير كجيش الجزائر نوعًا من إعادة الهيكلة في النظام السياسي قبل أي انتخابات رئاسية.

ونظراً إلى المستوى الحالي للانقسام والصراع على السلطة بين الفصائل الحاكمة، هناك شكّ حول ما إذا كان النظام الحالي سيتمكن من الاتفاق على مرشح رئاسي.

في الواقع، يؤدي المسار السياسي الراهن في عهد بوتفليقة إلى جعل هذا السيناريو غير محتمل سواء على المدى القريب أو المتوسط. وربما «التطهير» الذي يقوده الجنرال صالح قد أرسى الشروط لعملية انتقال سلمي، لأن الجيش هو العمود الفقري للنظام. وفي الوقت نفسه، يُظهر التاريخ أن الجيش طالما قاد بنجاح عمليات انتقالية في الجزائر، الأمر الذي يفسّر سبب اعتباره المؤسسة الأكثر ثقةً في البلاد. ومع ذلك، فإنّ نتيجة اختبار القوة هذه ستؤدي إلى توازن جديد بين المجموعات المتنافسة التي ستؤثر على مستقبل الجزائر. وهناك عدد من المؤشرات التي تشير إلى أن قايد صالح سوف «يقطع المزيد من رؤوس» ضباط الجيش الآخرين لمنع أي مقاومة بين «الأشخاص المشكوك في أمرهم داخل الجيش»، وفي هذه المرحلة، لعل العقبات السياسية، وليس التوافق، هي التي سترسم الأشهر المقبلة التي تسبق انتخابات العام المقبل.