غاياتنا ليست هي في الغالب ما يصيبنا في مقتل، بل وسائلنا في الوصول إليها، فنوايانا الطيبة لا تمنح سوء أعمالنا صك براءة، إذ إن الاطلاع عليها من شأن الله وحده، فهو العليم بها، ولا يوفر لنا الحديث الشريف "إنما الأعمال بالنيات" حصانة أو ملجأ آمناً نلوذ به بحثاً عن مغفرة أو تملصاً من أذى أحدثناه، فذلك الحديث أو الستار الحديدي الذي يحول، كما نظن، بيننا وبين ذنوبنا ليس سوى حاجز من ورق الوهم.

لن يشفع لنا نحن كبشر بياض قلوبنا ما تصنعه أيدينا من سواد، فالوحل يكمن في المسافة بين ماء أنفسنا وتراب أعمالنا، وحقل الجروح المفخخة بالأسى يقع دائما في الطريق الواصل بين شوك سلوكنا وزهر وجْهتنا.

Ad

إن نبل الوسائل من شرف الغايات، وجزء لا يتجزأ منها، فلا يمكن أن تكون الدناءة، مثلاً، طريقاً للسمو، ولا الوضاعة سلّماً للرفعة، ومنديل الوفاء لا يزيل أثر الدم عن خنجر الغدر، ولا يرفأ جرحه، فسِفْر الوسيلة بعض من سيرة الغاية الذي لا يمكن إعادة كتابة حروفه بالذهب إن كانت قد تشكلت من الصدأ، وسيُفسد هذا الصدأ حتماً بريق السيرة ولمعانها، وإن رصّع تاجها بكريم الجواهر، وأكثر ما تتعرى الوسائل ويتجلى أثرها المشين في سِيَر الحب، فلا أسمى وأنبل من الحب، ولا يضاهيه في العُلا غاية، ففي الحب ترتفع أسقف الأرواح، وتُصقل شفافيتها، ويزول الغبار عن مراياها، وتتطهر القلوب من درنها. الحب غاية تجعلنا نعيد تأهيل ذواتنا لترتقي إليه، ولتكون جديرة بدخول منظومة الحب المقدس ونيل بركاته.

نعمل جاهدين لننقّي ما علق في ثياب إنسانيتنا من عاديتها التي تتأرجح بين المطامح والمطامع، وبين حب التملك ووسواس الانعتاق، ليحظى مَن نحب بفضاء يليق بكرامة أجنحته، ومساحة تتسع لمدى أغانيه.

في الحب نتعلم درساً يتجاوز حدود مبادئنا المثلى، فأن تحب لحبيبك ما تحب لنفسك ليس كافياً، بل لابد أن تتكيف على أن تحب له ما يحب هو لنفسه، وأن تعتاد على ذلك، وإن ظننت أنك بإيثاره على نفسك تسبغ على ذاتك فضيلة تستوجب الشكر، فإنك في شريعة الحب مدان بتهمة التقصير، إذ إن أقل ما يجب أن يكونه الحبيب هو "أناك" الخالصة، وهذا هو أدنى درجات الحب.

هذا ما يمثله الحب كغاية، إلا أننا كثيرا ما نتبع وسائل تُفسد هذه الغاية وتشوِّه جوهرها، وتحرفها عن جادة الرقي، فنرتكب الخطايا الكبرى في نية الوصول لتلك الغاية.

ننزع ريش الحب حتى لا يطير، نحبسه في الأقفاص حتى لا يفر، نسوّره بالشكوك والغيرة حتى نتأكد أنه تحت المجهر، نحصي أنفاسه ليشعر بالطمأنينة لحُسن رعايتنا له، نطبق عليه قبضتنا لينعم بالأمن في حراستنا، ووسائل أخرى نمارسها لا تقل سوءاً، من أجل هدف في منتهى الجمال، لينتهي الحال بتلك الغاية إلى شرِّ المآل، على عكس مقصدنا وما هدفت إليه نوايانا.

الحب ليس الشعور به، بل هو الوسيلة التي نتبعها في التعبير عنه!