شكَّل هذا العصر الإلكتروني، الذي منح الفرصة للجميع للكتابة والتعبير عن موقف ما في كلمات قصيرة، إرباكا كبيرا للمثقف، الذي وجد نفسه مضطرا لاستخدام ذات الوسيلة للتعبير والمشاركة في نفس الموقف.

وبغض النظر عن موقف المثقف والكاتب والمساحة التاريخية العريضة لإبداعه وتاريخه الكتابي، يجد نفسه عُرضة للشتم والتوبيخ من قبل كثير من هذه الأسماء الحقيقية والوهمية المشاركة في وسائل التواصل الاجتماعي. فالجماهير التي كانت تتلقف كتب وروايات وقصائد ومقالات هؤلاء المثقفين لا تحتاج إلى أكثر من مساحة صغيرة في "تويتر" لتنسف تاريخ هذا الكاتب وذاك المثقف، لمجرَّد أن رأيه يأتي بصيغة مغايرة لما تطلبه هذه الجماهير.

Ad

لكن، وللحقيقة المحضة، هناك الكثير من الأسماء المهمة في مشروعنا الأدبي العربي أظهرت وعيا ضئيلا مقارنة بالعامة، التي شاطرتها المساحة الكتابية، ووجدت نفسها إما مدافعة عن مصالحها التي تربطها بالسُّلطة، أو مناهضة للسُّلطة، لمجرَّد تسجيل موقف.

والسؤال الصعب هو: هل هذه الساحة التي يمارس فيها المثقف التعبير عن رأيه ليست ساحته؟ وهل خروجه من الساحة العريضة التي كان يجد فيها مجالا أكبر للتعبير عن رأيه في كتاب أو مقال وضعه عرضة لهذا الهجوم القاسي؟

للإجابة عن هذين السؤالين علينا أن ننظر للأغلبية من كُتابنا ومثقفينا، الذين لم يجدوا في هذه الساحة المزدحمة بالعامة مجالا لتبني آراء سريعة دون دراسة أو دراية أحيانا، ومعهم حق في ذلك.

الكتاب الذي يبذل فيه المثقف جهدا كبيرا، ويستغرق في بحثه سنوات لا يجد سوى قلة من القرُّاء المهتمين للرد عليه أو مناقشته، والمقال الرزين الذي يدرس من خلاله الكاتب حالة سياسية أو ثقافية يتوقف الكثيرون دون التعليق عليه، وأحيانا دون فهمه.

ذلك الأمر لا ينطبق على عدد محدود من الكلمات تفتح الباب لكل هذه الأصابع للرد والتشكيك في نية الكاتب وما يرمي إليه.

في كثير من الأحداث يحتاج الكاتب ممارسة دوره النقدي، وهو دور لا يمكن أن يأتي مباشرة في خضم الأحداث، ويسقط كثير من المثقفين حين يستعجلون في إبداء آرائهم، كي لا يتخلفوا عن الجمهور الذي يباشر في التعليق قبل معرفة حقيقة هذه الأحداث. هذه الجماهير تقول كلمتها، وتمضي دون أن نسجل عليها موقفا أو نعاتبها مستقبلا لأخطائها، وتلك ليست هي الحال مع مثقف صاحب رأي نحاسبه على موقفه، وننتقده على كلمات قليلة، كما نعاتبه وننتقده على كتاب أو مقال.

لا أطلب من مثقفينا أن يبتعدوا عن الجماهير التي تشارك في هذا الجنون الإلكتروني، فربما هم أيضا يعشقون أعداد المتابعين، لكنني أطلب منهم أن يكونوا أكثر حكمة وصبرا حين يتناولون حدثا ما. أطلب منهم ألا يعرِّضوا مكانتهم لانتقاص هذه الجماهير التي تتابعهم، وأن يكونوا في المقدمة مؤثرين بالجمهور، لا متأثرين بهم. في كثير من الأحيان يكون الصمت ميزة، حتى تنقشع الغمامة وتتضح الرؤية. أما تسجيل موقف سريع لإرضاء السُّلطة أو تحاشي غضبها، فهو سقوط للمثقف، ولن تغفر له الجماهير التي تزدحم حوله.