السبب الرئيس لخسائر القطاع النفطي الكويتي هو هذا النزيف المستمر للخبرات النفطية الكويتية، فلم نسمع في حياتنا أبداً أن بلداً وضع سياسات وبرامج وإغراءات للتخلص من خبراته غير الكويت، وهذه سياسة مستمرة حتى يومنا هذا، وفي نوفمبر من كل عام تجتمع معظم هذه الخبرات المتخلص منها في مؤتمر سنوي يظهر كم الخسارة البشرية التي نالت هذا القطاع.

فمنذ أن استولت الحكومة على شركات النفط بالكامل وأنشأت مؤسسة البترول الكويتية ونحن نرى عجبا، فقد بدأت منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي سياسة تقديم الترضيات للمحاسيب والأحزاب والنواب واختيار القيادات القليلة الخبرة، وتقديم المغريات للتخلص من ذوي الخبرة. ويزداد الأمر سوءا بوضع سياسات ونظم لإغراء القياديين بترك مناصبهم وفيهم أفضل الخبرات ليس على المستوى المحلي ولكن على المستوى العالمي، واستبدالهم بأفراد لا يعرفون إلا أقل القليل من العلم والخبرة والكثير من الولاء لهذا الشخص أو هذا الحزب حتى وصل الوضع إلى ما هو عليه.

Ad

ومن بقي من الناس الصالحين لم يكترثوا بهذه الجريمة، ولم نسمع لهم صوتا أو موقفا لهذا الهدر، وتركوا البلد ينزف أفضل ناسه ويبقيهم في بيوتهم يلتقون ساعتين كل عام لاجترار نجاحات الماضي ويبكون على الحاضر. ولكي تعلم أن وراء هذه الجريمة مستفيدا فإن الخبرات الكويتية سرعان ما استبدلت بشركات الخدمات النفطية التي أنشئت خلال السنوات العشرين الماضية، وفجأة أصبح معظم الفنيين العاملين في القطاع من مهندسين ومهنيين خشبا مسندة، وسلمت أعمالهم لشركات تجارية تقوم بكل صغيرة وكبيرة من أعمال بعد أن كان العاملون في القطاع هم من يقومون بهذه الأعمال.

أذكر وقد كنت أعمل في شركة البترول الوطنية حتى نهاية عام 1980 أن الشركة لم تكن تستدعي عمالة إضافية إلا حين موعد الصيانة الشاملة للمصفاة لمساعدة فنيي الشركة وبإدارة القياديين بالمصفاة لاختصار مدة الصيانة، وإعادة الإنتاج في أقرب وقت لتخفيف خسائر الوقت الضائع، ولم تكن أي عمالة تُستدعى للأعمال اليومية أو الإصلاحات أو التغييرات في موقع المصفاة، وكان كل شيء يتم بيد خبرات الشركة وعمالها وفنييها.

شركات الخدمات النفطية كان يوضع لها شرط لذر الرماد في العيون، وهو شرط تعيين كويتيين ضمن عمالتها، وكانت النسبة 10% حين بدأت الاستعانة بهذه الشركات، وكانت هذه الشركات التزاما بهذا الشرط توظف أي كويتي ثم تركنه في حجرة خاصة حتى موعد نهاية العقد، والأدهى من ذلك أن الشركات تدفع للكويتي مرتبا وتقبض ضعف هذا الراتب من شركة النفط. وأتحدى أن يقول أحد من قيادة مؤسسة البترول الكويتية إن هذه السياسة قد أدت إلى زيادة الإنتاج أو تحسين مستواه أو تخفيف التكاليف أو رفع مستوى الخبرة لدى العاملين في القطاع، كانت عملية نزف الخبرة النفطية الكويتية تعني في المحصلة تحويل كل الأعمال إلى هذه الشركات.

لذلك لا بد أن نسمع عن الخسائر الفادحة في المشروعات الكبرى أو في استثمارات المؤسسة بالخارج، فالكويتيون الذين كانوا يعرفون التنقيب والتصنيع والنقل والتسويق أصبحوا خارج المؤسسة وشركاتها، بل لا أحد يستمع إلى هؤلاء الذين تعتصر قلوبهم من سوء القرارات وحجم الخسائر، ويدلون بآرائهم فيما يدرس من مشروعات، فلا يستمع لهم أحد، ويبقى الإصرار على استبعاد الخبرة الكويتية حتى لو قدمت مجانا من أجل الكويت.

إن الحديث الآن عن الخسائر المادية سيذروه التراب بعد قليل، فالمستفيدون قادرون على تبرير الخسائر لكن استمرار الخسائر البشرية النفطية هو الذي سيؤدي إلى تدمير ما تبقى لنا من مستقبل الكويت.