على مائدة للعشاء اجتمعت مجموعة منوعة من العرب نساء ورجالا، شبابا وآخرين أكبر في العمر، جميعهم تؤرقهم اللحظة، وماذا بعدها، وأكثرهم قلقاً هم القادمون من ممالك النفط والبلح!! يقول لهم الفلسطيني كيف ينتابكم القلق على مستقبل، وأنا الذي أعيش اللحظة كل سني حياتي، وكثيراً من الماضي؟ يردد السوري وماذا عن بيتي الذي تحول إلى ركام آخذاً معه كل ضحكات أمي ووجع أبي وطفولتي البريئة؟ يتنهد العراقي طويلاً ويعيد أغاني ناظم الغزالي عند ضفاف دجلة، ويصمت لأن الصمت أكبر تعبير.

الحديث كله عن إلى أين؟ وأين نرحل حينما ضاقت أوطاننا بنا؟ أو كاد الخوف يسرق منا حتى قلق الليل، وأصبح النوم نعمة كبيرة لا تحل إلا في المناسبات، يتجول الحضور بين عدد من الأطباق الشهية على مائدة تمثل التنوع العربي النادر بثقافة طعامه الغنية، يتوقفون عند العواصم التي بدأت تمنح جنسيات أو موطنا للهاربين من الخوف... هم لم يكونوا يوما "جبناء"، الكلمة التي يعشق بعض أصحاب "العنتريات" ترديدها، ولكن لم يعد في العمر متسع، وفيما كان الخوف في الماضي من ظلمات السجن تحول تدريجيا إلى تنويعات مختلفة من العقوبات التي تبدو أحيانا في شاكلاتها وكأنها مخففة أو حكم بالموت مؤجل!!

Ad

يدورون على مدن الكون التي قد تحتضنهم إذا ما ضاقت بهم "دواعيس" ديرتهم، وأصبحت الشوارع والأرصفة والمقاهي والدوائر والشركات والجامعات والمدارس ذات لون واحد لا ثاني له، هنا يرددون عليك عندما يختمون جواز سفرك وأنت عائد للوطن متشوق للأهل والأحبة... هنا يوقفونك قليلا أو كثيراً، هنا يقولون لك إنه إجراء روتيني ثم يعيدون لك جواز السفر! ربما كما يقول أصدقاؤنا وأهلنا في الشام "شدة وذن" ومن بعدها على النبيه أن يفهم أو أن يرحل بلا عودة حتى لزيارات قصيرة متقطعة، يتفقد فيها جدران مدينته العتيقة، ويسمع فيها أصوات اليامال والغاصة الذين لم يشاهدهم أبدا عائدين إلى أحبتهم عند الموجة الأولى، حتى هذه قد تصبح رفاهية كبيرة قريبا، قال ذاك وهو يبتسم بخبث، يردد كنت أحلم بالعودة، وأبحث في كل زيارة عن صداقاتي القديمة، وأنبش أرقام الهواتف وأسير في الشوارع، أبحث عن نفسي في طرقات واسعة وجميلة لكنها لا تشبهني ولا تشبه طفولة كانت، هذه سنّة الحياة.

يقولون ألا تحب التطوير والتقدم؟ ألا تريد لبلدك أن يضاهي طول العالم في ناطحات السحاب كمدينة نيويورك، حيث تحولت أسطح مبانيها إلى متنزهات عندما اختنق سكانها من طفرة الإسمنت والعمارات الزجاجية، هناك لديهم سنتر بارك ليتنفسوا من بعض الشجر وأنتم ماذا لديكم؟ حتى بحركم أصبح كومة من الرمل خنقت أسماككم الجميلة طعام فقرائكم وأغنيائكم... وتحول البحر إلى مقابر جماعية لثروات وذكريات أيضا.

يعود الجالسون والمائدة قد تغيرت وأنزلت الحلويات ما لذّ وطاب، هذه بقلاوة أحضرها أخي وهو قادم من بيروت، وتلك برازق من الشام الناهضة من تحت الرماد، والعراقي يعود ليتفاخر بـ"منى السما" فلم يتبق من العراق الذي كان إلا هو والمسجوف والدولما!! وحلاوة طيبة من الخليج مع سمبوسة حلوة طعّمها أهلنا بكثير من الزعفران وماء الورد... بعض القهوة على النار تنتظر أن تنهي السهرة لكنها سهرة لا تنتهي، فهي سهرة التنهدات الطويلة، والبحث مستمر، والحضور كأنهم في درس للجغرافيا يمرون بمدن لا يعشقها الخليجيون، عادة هم خليجيون لا يعرفون ماربيا، ولا كان، ونيس، في جنوب فرنسا، ولا الريفيرا الإيطالية، ولا حتى بودروم التركية.

هم خليجيون يبحثون عن الحقيقي من المدن والبشر، لم يفعلوا أكثر من ذلك في كل حياتهم، التصقوا بثقافة الكون مع تمسكهم واعتزازهم بثقافاتهم، ولكنهم لا يجدون لهم مكاناً وسط ترسخ ثقافة التسلق والاستهلاك القاتمة، ولا يعرفون الحديث عن آخر صيحة للشنط النسائية أو الساعات المرصعة بالألماس، ولا تشغلهم السيارات الفاخرة.

هم مهمومون بالقادم خائفون على أطفال خلقوا وفي أفواه بعضهم ملاعق تلمع لها بريقها حتى تصوروا أن كل شيء هو ذهب، وهم أنفسهم من يرددون أحيانا "لماذا لا يأكلون البسكويت؟!"، جاءت القهوة لتنهي السهرة لا الحديث، والهم الباقي غصة لكثير منهم عربا وخليجيين خائفين من الخوف!!

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية