توافد جمع كبير من الأدباء والمثقفين والمحبين في فعالية أقامتها مكتبة «تكوين» في القاعة المستديرة بمركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي لتأبين الروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، وشهدت إلقاء العديد من الكلمات الزاخرة بمناقب وسجايا الراحل والإضاءة على تجربته الثرية، فضلا عن معاني التكريم والتقدير لدوره الرائد في تأسيس منهج متميز لفن الرواية الكويتية، وفي أجواء غلب عليها طابع الحزن والألم.

أدارت الفعالية الروائية بثينة العيسى، وقدمت كلمة مؤثرة لخصت من خلالها الكثير من الصفات التي تمتع بها الراحل حيث قالت: «78 عاماً يا إسماعيل وأكثر من 40 مؤلفاً في الرواية والمسرح والنقد، ثم تدير ظهرك للعالم وترحل بكل الهدوء الممكن، عشت قارئاً، كاتباً، صديقاً، محباً، وارفاً، مثل نخلة، ولم يخطر لنا أن ظلك الذي ترامى من المحيط إلى الخليج سيغيب في يوم، بدوت عصياً على الموت، حتى ما عدنا نفهم رحيلك، ها أنت ترحل إسماعيل، ولكنك لم تمت، لأن الكاتب الحقيقي لا يموت أبداً».

Ad

بعدها عرض فيلم تسجيلي تطرق إلى بعض الملامح الإنسانية التي ميّزت الراحل، إلى جانب الاستماع إلى آرائه الفلسفية في الحياة والإبداع، واسترجع الفيلم بعضاً من الذكريات المتعلقة بلقاء الاثنين الذي ينظمه مركز الشيخ جابر الثقافي أسبوعياً وكان ضيفا على إحدى جلساته، وحديثه – رحمه الله- عن الكتابة والقراءة والمعرفة.

تأبين أدبي

بدوره، قال الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب م. علي اليوحة: «أحييكم بأجمل تحية في هذا التأبين الأدبي، الذي يقام هذه الليلة في هذا الصرح المميز، مركز جابر الأحمد الثقافي، من خلال منصة مكتبة تكوين النابضة تقديراً للمبدع فقيدنا في الكويت والعالم العربي إسماعيل فهد إسماعيل، وباسمي وباسم جميع العاملين في الأمانة العامة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أتقدم لكم بخالص التقدير والعرفان للدور الذي تقوم به منصة تكوين وجميع المكتبات ودور النشر الأخرى التي ساهمت وتساهم في إثراء الحراك الثقافي بالكويت وبما يليق بتاريخها في هذا المجال».

واستذكر اليوحة عددا من أعماله الأدبية، مركزاً على عمله الاول، وقال ضمن هذا الإطار: «ها قد رحل إسماعيل فهد إسماعيل عن الدنيا، رحل (أبو الرواية الكويتية)... لكنه رحيل نسبي... أو ربما لا رحيل... فالحاضر الغائب كان شُغله الكلمة، وبلورة المواقف المبدئية من خلال النص والكلمة التي طارت في سماء الرواية العربية، وذلك في مسافـة زمنية بدأت بـ(البقعة الداكنة) عام 1963، وانتهت قبل وفاتـه بـ(صندوق أسود آخر) عام 2018 العام الذي ودعناه فيه».

صناع الأدب

واستطرد اليوحة في الحديث عن قدرة الراحل في توزيع نتاجه في صنوف الأدب والثقافة، مؤكدا فرادته وتميزه، وقال: «في كثير من المجتمعات اليوم، يحتار الناس في معرفة وتفسير ما يحيط بهم من أحداث وتغيرات، ربمـا بسبب تسارعها وتلاحقها الذي يعجز معه عقل الانسان البسيط على استيعابها، فيأتي أصحاب الكلمة وصانعو الأدب والثقافة ليسهلوا على ملايين البشر فهم ما يدور حولهم من خلال نافذة محببة للجميع وهي الكتابة الأدبية، وهكذا كانت نصوص ونتاج الغائب الحاضر إسماعيل فهد إسماعيل في الرواية والنقد والمسرح، إسماعيل فهد ليس روائيا فقط... إسماعيل حالة إنسانية متوقدة لم تتوقف عن الكتابة... اختزلت الأمل والألم، الفرح والحزن، المعاناة والخلاص، إسماعيل حاول جاهداً في تفسير معنى الحياة، معنى الحق، معنى الكبرياء، معنى الإنسانية... إسماعيل حالة كويتية - عربية استثنائية جاوزت غزارة الإنتاج إلى تأصيل معان كثيرة حاول كل منا عبر سنوات عمره أن يجد لها تفسيرا ومعنى».

مشاعر حزن

وتابع اليوحة: «لا أخفيكم أنني أختزن مشاعر حزن كبيرة وشديدة الوقع على نفسي بسبب فقدان هذا الصديق القامة، وربما سيخف هذا الحزن مع مثابرتي لرد جزء من جميل هذا الرجل وذلك من موقع مسؤوليتي كأمين عام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وقد ترجمنا جزءا من ذلك بمنحه جوائز الدولة التقديرية عــام 2004، والتشجيعية لعامي 1989 و2002، فذلك أقل ما يمكن تقديمه لهذا الانسان الفريد».

وعن بعض المواقف الشخصية، استذكر اليوحة: «لن أستطيع مقاومة غيابه عن معرض الكويت للكتاب، فقد أصبح من المألوف أن أراه ونراه جميعاً يتجول بين أجنحته ودور النشر فيه وصالونات القراءة المتناثرة بين أرجائه... يلتقي فيها الشبان الذين للتو بدأوا يدخلون عالم الكتابة الوعر والشائك... يُسدي النصح ويصوب ويناقش ويتلقى منهم الرأي... ويشجعهم رغم الهفوات التي تلازم ولادة الأدباء الصغار في أي مجتمع. كنت أتبادل الرأي مع الفقيد إسماعيل عن الحراك الثقافي الشبابي في الكويت، وهو كما يبدو، حراك منتشر في أكثر من مجتمع عربي، وتوافقنا في أكثر من مناسبــة على أن ما يحدث جيد وإيجابي رغم المطبات والهفوات التي دائماً ما تكون متلازمة مع البدء بأي مشروع، فما بالنا إن كان هذا المشروع صعباً... مشروع أن نكتب وننشر ونصنع كتاباً ونبني دور نشر ومكتبات... اتفقنا على أهمية أن تستمر منصات الحديث والحوار والكتابة والتأليف بكل ما فيها من صعوبات ونجاحات، لكن أن نبدأ هذا هو الأهم... لأن البداية تعني أن نعالج الأخطاء لاحقاً، ونصوب الهفوات لنصل الى مرحلة مقبلة نتحدث فيها ربما عن أدب رصين، سيتشح معرض الكتاب المقبل بالسواد لغياب هذه القامة الكبيرة، لكن وشاحاً أبيض سيكون أكبر، وسيطغي على ما سواه.. وشاحاً يحمل أكثر من 40 عملاً روائياً ونقديا ونصاً مسرحياً، كانت ولا تزال مصدر إلهام لكثير من الكتاب والأدباء والمثقفين».

مبادرة رائعة

ويختتم اليوحة حديثه، لا نملك سوى الترحم على روح الفقيد التي ذهبت الى عالم الارتقاء والسمو، كما لا يسعني إلا تقديم الشكر لكم في منصه (تكوين) على هذه المبادرة الرائعة لتأبين الفقيد اسماعيل فهد اسماعيل.وعبر كلمات ذكر الكاتب محمد جواد مسيرة الراحل وإصداراته الأدبية من خلال كلمات شعرية تنضح بالألم والمودة، منها: «لقد أينعت برحية إسماعيل السامقة وتدلّت عذوقها فكانت (البقعة الداكنة)، أودعها و رفع رأسه فرأى (السماء زرقاء)، فاستراح مطولاً عند (المستنقعات الضوئية)، ثم شد (الحبل) ليرحل لاحقاً نحو (الضفاف الأخرى)، داهمته الفجيعة فكتب (ملف الحادثة 67) وظل ينظر بقلبه النابه لما حل بــ (الشياح)، لملَمَ شتاته واشتاق لــ (للأقفاص واللغة المشتركة) ثم توجه ليستعيد الماضي فوجد (النيل يجري شمالاً) ببدايات السرد الطويل، ثم حاكى (النواطير على النيل)».

الأدباء الشباب

وشبّه الروائي طالب الرفاعي الراحل بالبرتقالة التي إن عصرتها تحصل على شراباً طازجاً لذيذاً، وأن هذه البرتقالة تعطي عصيرها في أي مكان وجدت فيه سواء في الكويت أو العراق أو مصر، كما شبّهه بالبحر الذي تصب فيه كل الأنهار بسبب تواضعه، فله القدرة على استقطاب الأنهار الصغيرة لتصب فيه، كما أكد أنه كالنبتة التي تظل خضراء وتعطي ثمارها بلا انقطاع، مشيراً إلى إنتاجه لأكثر من 40 مؤلفاً واحتضانه للأدباء الشباب، وصداقته الخالدة لليلى العثمان.

أدوات الحب

وبتأثر شديد رثى الكاتب حمود الشايجي الراحل ليشكره على كل الذي تعلمه منه، والعلم الذي غرسه في نفسه، ووعده بأن يستمر في ابتكار أدوات للحب مثل تلك التي علمه إياها، وقال بحزن تسبقه العبرات: «أبونا راح». وألقى الروائي خالد النصر الله كلمة قال فيها: «ما من قارئ واع يستطيع مقاومة دهشته إزاء نصوصه، وما من إنسان صادق بإمكانه إخفاء خجله إذا ما تحدث إليه واقترب منه».

الكاتب والمناضل الحقيقي

تحدث مدير مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، فيصل خاجة عن دور الراحل في إرساء دعائم الكثير من المشاريع الثقافية، ليصفه بالكاتب والمناضل الحقيقي في زمن فقد معناه الحقيقي، موضحا أن إسماعيل كتب 3 ملايين كلمة باقية، والذي ظل إلى آخر لحظة من عمره معطاء.

وقال: «لم نقرأ عنه أي كلمة معيبة، في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، فكل هذا الزخم 10 آلاف تغريدة وتعابير مختلفة تمدحه وتذكره بالخير رغم أنه لم يكن سياسيا ولا فنانا أو رياضيا».

وأضاف: «بقدر الألم نرى الأمل، فالزخم الذي صاحَبَ رحيل إسماعيل كان استثنائياً إذ لم يسبق لأديب في مجتمعنا حَصد كل هذا الحب الجارف والصادق من الجماهير متمثلاً في تصدر خبر وفاته لـ (ترند) منصة التواصل الاجتماعي (تويتر) يوما كاملا بآلاف التعليقات مختلفة الصياغة متفقة المشاعر».

وتابع «ولا عجب، فعلى مدى مسيرته الممتدة لأكثر من نصف قرن من الزمان انشغل إسماعيل بنثر حبوب المحبة في كل الأرجاء، فكان الحصاد يوم الحصاد، أليس هو القائل إن علاقتنا بالأشياء مرهونة بمدى فهمنا لها، لذا كانت علاقته بالإنسان بمعزل عن كل تصنيفاته هي علاقة حميمة انعكست على مشاعره تجاه الجميع في الغياب قبل الحضور، فالوصف الاعتيادي لكل شخص بمعرض حديثه عنه هو (الجميل)، كان جميلاً فرأى الوجود بأكمله جميلاً». واستطرد قائلا: «كاتبنا النوعي، عذراً إن لم تسعفني العبارات، كيف لها أن تسعفني بعد أن كانت تأتمر بأمرك ناسجاً منها حكايا ليست كغيرها، كيف لها أن تسعفني وأنت القائل ان عرض الفكرة المكثفة بدون الإخلال بالمضمون يتطلب تركيزاً استثنائياً، من أين لنا بهذا التركيز في فقدك الموجع، يا أيها الجميل الحقيقي، نبراتك ومفرداتك الخاصة بك لا تزال تملأ كل الأرجاء، تداعياتك، وحوارك مع ظلك يملآن أرجاء الذاكرة».

صرح محبة

قالت الكاتبة د. إقبال العثيمين: «في الأسبوع الماضي شاهدت فيديو لإسماعيل، يتحدث فيه عن روايته السبيليات، قال فيه: إن دور الكاتب أو الروائي عموماً، ليس الكتابة فقط إنما هو أن يؤثر ويترك أثراً في النهاية! وأنا أشهد بأنه قد أدى هذا الدور، وبجدارة. وأكد فهد إسماعيل «نجل الراحل»، أن من يريد معرفة والده يقرأ له، ومن يريد أن يتعرف على وجوده يقرأ له، مؤكداً أنه لم يفهم والده الراحل إلا حينما أصبح قارئاً لأعماله، مؤكداً أن والده لم يرحل ولكنه موجود بيننا.

وقال الشاعر دخيل الخليفة: «لكل منا حصة في قلب إسماعيل، كما أن له حصة كبرى في قلوبنا، وقال: «كنا نراه يمتلك قلب طفل يحب ولا يكره»، ثم قرأ نصاً شعرياً، كتبه عام 2010، أثناء حضوره إحدى جلسات الملتقى الثقافي في بيت طالب الرفاعي.

وبكلمات قليلة ومؤثر تغلبها العبرة والشجن ألقى الروائي سعود السنعوسي كلمته التي يرثي فيها حاله وهو لا يرى إسماعيل فهد إسماعيل جالساً في الصفوف الأولى وهو يتحدث من على المنصة، وقال: «اكتشفت أننا بفقد إسماعيل قد أقمنا صرح محبة في أحزاننا، اليوم نحن نقيم هذا الصرح الذي يليق بالراحل، كما لا ينبغي أن نبكي لأنه لم يكن يحب البكاء».