في مقالي الأحد الماضي تناولت "تعديل قانون المحكمة الدستورية بالقانون رقم 168 لسنة 1998 الحاضن للعوار الدستوري الذي يشوب قانون الضريبه العقارية الصادر في عام 2008"، وأشرت إلى أن كلا القانونين قد صدرا في حقبة مبارك، إلا أن قانون الضريبة العقارية لم يطبق إلا بعد عشر سنوات من صدوره، ويثير تطبيقه الآن استياءً في مصر في أوساط الطبقة الوسطى بوجه خاص من هذا التطبيق.

والواقع أن تعديل قانون المحكمة الدستورية له قصة رأيت أن أرويها للقراء في هذا المقال.

Ad

المعادلة الصعبة

في التوفيق بين مبدأ سيادة الدستور الذي ترسخه رقابة المحكمة الدستورية على القوانين، وبين مبدأ سيادة الأمة مصدر السلطات جميعاً، والتي يمثلها مجلس الشعب المعبر عن إرادة الأمة، وهي المعادلة التي فجرت صراعاً في مصر في أعقاب الأحكام العديدة التي أصدرتها محكمتنا الدستورية العليا بعدم دستورية العديد من القوانين. منها الأحكام التي تعرضت بقضائها لشرعية وجود البرلمان ذاته الذي جرت الانتخابات لاختيار أعضائه في ظل قانون قضت المحكمة بعدم دستوريته، مما أدى إلى حل مجلس الشعب، وتعديل أحكام قانون الانتخاب بقانون جديد، قضت المحكمة مرة أخرى بعدم دستوريته، وهو ما أثار جدلا كبيرا حول وجوب حل مجلس الشعب تنفيذا لهذا الحكم، وانتصر الشعب لقضاء المحكمة الدستورية في استفتاء شعبي جرى في سبتمبر 1990 وافق فيه الشعب على حل المجلس تنفيذا لحكم المحكمة.

القضاء الشامخ للمحكمة الدستورية

ثم كان هذا السيل المنهمر من الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدستورية في تحقيق مبدأ المساواة وحماية الحرية الشخصية، وصيانة حق الملكية الخاصة، وتوفير الحماية لحق التقاضي، وحق المتهمين في محاكمة عادلة ومنصفة، مهدرة كل القوانين التي تعارض هذه المبادئ أو تصطدم بهذه الحقوق أو بغيرها مما كفله الدستور.

وكانت مصر تزهو بأحكام المحكمة الدستورية التي صانت مبادئ الديمقراطية والحرية، فألغت قانون العزل السياسي الذي أصدره الرئيس السادات في بداية حكمه، وألغت النص القاضي بحظر قيام أحزاب سياسية تعارض اتفاقية كامب ديفيد، وألغت نصوص القانون الذي جرت انتخابات المجالس الشعبية المحلية وفقا لأحكامه، مما أدى إلى حل هذه المجالس وتعديل قانون الإدارة المحلية بما يتمشى مع قضاء المحكمة، مما اعتبر ذلك دوراً أساسياً للمحكمة تعرضت بسببه لانتقادات حادة على صفحات الصحف.

هجوم الحزب الحاكم على المحكمة

إلا أن المحكمة الدستورية بسبب هذه الأحكام تعرضت لهجوم من الحزب الوطني الحاكم وقتئذ، فضلا عن الانتقادات التي تعرضت لها المحكمة على صفحات الصحف، الأمر الذي أدى إلى اتجاه بعض النواب إلى تقديم اقتراح بقانون بتعديل رقابة المحكمة الدستورية لتصبح رقابة سابقة على المشروع قبل إقراره من مجلس الشعب. وأن يصبح رأيها استشاريا، أو الإبقاء على رقابتها اللاحقة مع فرض وصاية مجلس الشعب على أحكامها، فلا يتم نفاذ هذه الأحكام إلا بموافقة المجلس عليها.

الرئيس مبارك يحذر من المساس بالمحكمة

إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع أمام أقلام رجال القانون التي تصدت لهذه المحاولات، وبسبب الوعي الدستوري الذي غرسه هذا الفيض الغامر من أحكام المحكمة الدستورية في الرأي العام والذي كان له الفضل في وأد هذه الاقترحات حتى تنكر لها حتى مقدموها بعد أن أعلن الرئيس مبارك أنه لن يسمح بالمساس بالمحكمة الدستورية العليا، لأنها حصن أصيل للديمقراطية وسيادة القانون، وهي أداة تصويب لقرارات السلطة التشريعية والدولة معاً.

المفاجأة أو الصدمة الكبرى

إلا أنه رغم هذا التحذير من الرئيس الأسبق حسني مبارك بعدم المساس بالمحكمة الدستورية فإن الجميع فوجئ بعد فض دور انعقاد مجلس الشعب عام 1998 بصدور القرار الجمهوري بقانون رقم 168 لسنة 1998، الذي كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على أحكام المحكمة بديلا عن إلغاء المحكمة، والذي كان يتطلب تعديلا دستوريا، وهي الرصاصة التي أصابت هذه الأحكام، ولكن في مقتل، عندما أهدرت الأثر الكاشف لها.

فلا يفيد من الحكم الصادر بعدم دستورية القوانين الضريبية إلا أطراف الخصومة في الدعوى الدستورية، وجعل هذا التعديل الأصل في باقي أحكامها صدورها بأثر مباشر، ما لم تقرر المحكمة الدستورية تاريخاً أسبق لسريان الحكم بعدم الدستورية.

وكنت من الذين اعتبروا هذا التفويض غير دستوري في مؤلفي أزمة المحكمة الدستورية الصادر في عام 1999، لأن الأثر الكاشف لأحكام هذه المحكمة تستمده من الدستور ذاته لأن الحكم ليس منشئا لهذا الأثر، وهو ما استقرت عليه أحكام المحكمة منذ إنشائها، إذ لا يجوز أن يعتبر القانون غير دستوري إلا بعد صدور الحكم القاضي بعدم دستوريته، ويعتبر في الوقت ذاته دستوريا خلال الفترة السابقة على صدور الحكم وقد شاب العوار الدستوري القانون منذ صدوره.

غياب الضرورة في إصداره

والواقع أن هذا القرار بقانون الصادر في غيبة مجلس الشعب استخداما للسلطة الاستثنائية المقررة لرئيس الدولة بموجب المادة (147) من الدستور، لم يلتزم الضوابط الدستورية في استخدام هذه السلطة، فلم يكن الأثر الكاشف لأحكام المحكمة الدستورية هو الخطر الذي فاجأ الحكومة بين ليلة وضحاها بعد فض دور انعقاد مجلس الشعب، لتتدخل على أساسه في الحد من أثر هذه الأحكام التي استقر عليه قضاؤها منذ عام 1970، مقتحماً هذا القرار بقانون مجالاً من المجالات المحجوزة للتشريع الصادر من السلطة التشريعية الأصيلة، بتناوله بالتنظيم ولاية القضاء الدستوري، وبأثر رجعي يرتد إلى الدعاوى المنظورة أمام المحكمة الدستورية وإلى القوانين المطعون بعدم دستوريتها أمامها، مهدداً بذلك كله مبدأ الفصل بين السلطات، عندما استخدمت السلطة التنفيذية سلطتها الاستثنائية في إصدار قرارات جمهورية لها قوة القانون مناطها حالة الضرورة التي انتقلت في إصدار هذا القانون، (المراسيم بقوانين في الكويت).

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.