قبل ليلتين، شاركت في ملتقى الثلاثاء، احتفاءً بصدور رواية "صندوق أسود آخر" لإسماعيل فهد إسماعيل. كنت أنوي الكتابة عن تلك الأمسية، وعن جمال المحتفى به، وكرمه، وروايته عن "البدون"، فجاء الخبر الصادم برحيله، أمس... لم أكن أتصور أبداً أنه كان وكأنه قد جمعنا ليودعنا.

فهل اختار إسماعيل تلك الأمسية الاحتفالية بروايته الأخيرة، كجزء غير ظاهر من نهاية الرواية، أم أن تلك الأمسية المفعمة بالحب والمحبين له ولإبداعه، قد اختارته لقاء وداع؟

Ad

في أمسية عرس الرحيل، تمكّنا من البوح بمشاعرنا تجاهه علناً... على المستوى الشخصي عبّرت له عن امتناني لكرمه ومحبته، يقال: إن أحببتم فبوحوا بمشاعركم لمن تحبون، فقد يرحلون فجأة دون أن يعلموا عن تلك المشاعر، كم كان سعيداً جذلاً، وكأنه يقول: والآن آن أوان الرحيل.

مضيف الملتقى الأديب طالب الرفاعي ذكر أننا نلتقي مع الرواية الأخيرة، فعلق أحد الحضور: ليست الأخيرة، ولكن آخر رواية، فاتضح لنا أنها حقاً كانت الأخيرة.

في أمسية عرس الرحيل، تم توزيع نسخ الرواية، ولم تتبق نسخة لي، فوعدوني بإرسال نسخة لي لاحقاً، وبقيت نسخة د. ابتهال، المليئة بالتعليقات، فأخذها إسماعيل، وخط عليها إهداءً لي سيبقى أيقونة... كان ذلك هو الإهداء الأخير.

مشروع إسماعيل فهد إسماعيل، منذ زمن طويل، كان انتصاراً للمهمشين، "يحنو عليهم" ويقدمهم على من عداهم من أصحاب النفوذ والسطوة و"يشخصنهم" ويجد لهم التبريرات.

وهكذا كانت روايته الأخيرة عن مُهمشي الكويت، البدون، الذين يتفاخر أصحاب النفوذ والسطوة عندنا بقهرهم، ويستمتعون بمعاناتهم بسادية محزنة. لماذا يفرح أصحاب السلطة والنفوذ بقهر الضعفاء، مع أن القوة بيدهم؟

عرفت إسماعيل ككاتب، منذ روايته الأشهر "كانت السماء زرقاء"، في السبعينيات وما تلاها. كان محللاً ومشخصاً الأبعاد الإنسانية للبشر، مبحراً فيها بأسلوبه الرشيق المميز، منتصراً للمظلوم، محترماً عقلك، محترماً ذاته. توطدت علاقتنا وتعمقت خلال فترة الغزو، فكانت محطته خلية نحل، وكنا نتبادل الأفكار والرؤى والآراء، لكيفية التصدي للغزاة، ولما بعد الغزو. سألته ذات مرة: "ذكرتَ في روايتك السباعية عن الغزو تفاصيل كثيرة لأحاديث جرت بيننا، كنت قد نسيتها، فهل هي الذاكرة الفولاذية؟"، ابتسم، وأخرج القلم ملوحاً به، وقال: "بل كنت أدوّن كل شيء، ما إن ينتهي اللقاء بيني وبينك، حتى أسجل ما دار، لأنك كنت لي مشاريع لأكثر من رواية". فاجأني، صمتُّ، ولم أعقب، "على طريقة إسماعيل"، وبالتالي جاءت الرواية التسجيلية "إحداثيات زمن العزلة" كأكبر وأهم عمل روائي عن الغزو، مما يحق لنا معه أن نطلق على إسماعيل صفة "أديب المقاومة".

عبر حقب متتالية، كانت تصلني منه روايات قبل النشر كمخطوطات لإبداء الرأي، وبالذات في الجانب المعلوماتي، فقد كان إسماعيل، حريصاً، دقيقاً فيما يكتب. اختلفنا أحياناً، ولكنه كان خلافاً على شاكلة الخلاف بين غيمة كبرى ظليلة، كإسماعيل، وغيمة صغرى على "أين سيهبط المطر؟".

عندما يرحل كاتب وأديب بقامة إسماعيل فهد إسماعيل، فهو يرحل عنا بجسده، إلا أنه باقٍ معنا برواياته وفكره الإنساني. كما أنه باق بجيل مبدع من الشباب الكُتاب الذي كان إسماعيل لهم أباً حقيقياً، وهو ما تردد في تلك الأمسية الوداعية، حفلة عرس الرحيل.

رحل عنا إسماعيل، وما رحل، هكذا هي الحقيقة، دون مغالاة أو مبالغة، و"إنا لله وإنا إليه راجعون".