عندما يقف المؤرخ أمام التراث ويطل بنظرة ثاقبة على هذا الكم الهائل من أعمال، ونشاطات، وقيم، وسلوكيات الناس في الماضي، وهو أصل وكمّ هائل من صنع البشر جيلاً بعد جيل الإيجابي منه والسلبي والجيد والرديء، يرى فيه بوادر التقدم والتخلف.

وأية غربلة لهذا التراث تحتاج إلى باحث عقلاني منصف وموضوعي لا تدفعه للدخول في هذه المعمعة دوافع سياسية أو عنصرية أو طائفية أو شخصانية، ثم هو بكل تأكيد لا يستطيع كفرد أن يلمّ به بل يقف أمام ملامحه، وما يفيد الحاضر والمستقبل من قراءته واستقرائه، فالبعض يرى الدين جزءاً من التراث.

Ad

والباحثون في التراث كثيرون ومن توجهات وتخصصات مختلفة، ولكن يهمنا كيف يتعامل المؤرخ أو الباحث في التاريخ مع هذه المسألة، ويحدد العلاقة الحميمية بين التاريخ والتراث، ولا يمكن أن يحدث ذلك بدون فهم لكل منهما، وبذلك النقد يزيح القداسة عن التراث، ويتعامل معه كجزء من التاريخ وأهم مصادره، فالتاريخ هو تجارب الماضي، وبعض ومضات التنوير فيه قد تكون أفضل من الحاضر، وأن نقد التراث عملية تاريخية، والوعي به أساس التطور في المعرفة والثقافة التاريخية. إن العلاقة بين التاريخ والتراث قوية وأساسية، لأن التراث أحد أهم مصادر التاريخ ومنابعه، فالمسألة تحتاج إلى مؤرخ أو باحث في التاريخ فقط لديه القدرة والوعي لسبر أغواره.

يعتقد البعض أن التراث هو التاريخ التقليدي للمجتمعات، وآخرون يعتبرونه الأساس في البحث التاريخي، والحقيقة أن التراث هو فعل الإنسان وقيمه وثقافته وتجاربه في الماضي، ولا يمكن أن يكون هناك بحث تاريخي بدون الغوص في التراث للوصول إلى الحقائق، وقد تكون لؤلؤاً أو فعلاً فاسدا متخلفاً.

ويمكن الوقوف عند مسألة واحدة في التراث أو أكثر مثل قضية المرأة، وهناك آلاف القضايا التي عاشها التراث وتعايشت معه، وهي جديرة بالاهتمام سواء كانت في الشأن الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، والنتيجة العلاقة بين الطرفين التاريخ والتراث قوية، إذ لا يستغني أحدهما عن الآخر.

لقد كان التراث الأوروبي للعصور الوسطى الأوروبية هو التراث اللاهوتي الكنيسي، وسلطة رجال الدين، وكان تراث التاريخ الحديث الأوروبي هو تراث الليبرالية والعلمانية بعد الثورات التحررية في الغرب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكان تراث العرب والمسلمين سيطرة الدول الإسلامية الأموية فالعباسية فالأيوبية والفاطمية والمملوكية والعثمانية، وظل البحث التاريخي أسير ذلك التراث.

وفي المقابل نمت النزعة التقدمية للحداثة في أوروبا والغرب عموماً باتجاه التجديد في الوقت الذي يدور العرب والمسلمون في فلك التقليد، ففي الوقت الذي يبحث الغرب في مرحلة ما بعد الحداثة يبحث العرب والمسلمون في تراثهم، مما يؤكد نزعتهم التقليدية وهم بذلك يتراجعون إن لم يتجمدوا.

ويبدو أننا نحتاج إلى فهم جديد لمسألتي التقدم والتخلف أولا، وهذه عملية تعليمية وذهنية ثقافية شاقة دخلتها أوروبا وخرجت منتصرة بالحداثة، ولا نعرف أننا سندخلها ونخرج خاسرين أو رابحين، وبوادر ذلك التوجه من قراءة الواقع العربي والإسلامي لا تبشر بخير أو إصلاح.

فالمجتمع نحو التمزق والتقسيم الإثني، والسلطات نحو مزيد من الدكتاتورية، والجيران في الإقليم يكشرون عن أنيابهم لنهش ما تبقى من الجسم العربي، والقوى الدولية تستنفر قواها لتستمر في نهب خيرات هذه الأمة، وقوى الأمة إلى التشظي والتشرذم والشقاق والتطرف والإرهاب بدلاً من السلم الاجتماعي والاستقرار والبناء.

هي حلقة مفقودة تدور في فلكها إلى ما لا نهاية، والبعض منا يبحث عن مخرج للأزمة، البداية في نقد منصف وواع للواقع، ثم يتصدر المشهد المفكرون والمثقفون، وإن تحديد قضايا الأزمة الأساسية، ثم الاتجاه نحو بلورة رؤية استراتيجية، يتم في أن نفهم أننا نعيش مرحلة الدول النامية، وأن هذه المرحلة ستستمر طويلا قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، هذا إذا لم نتراجع إلى مرحلة متخلفة لنعيد إنتاج أنفسنا، ونكرر تاريخاً وتراثاً عشناه.

ويحدث في التاريخ أن تعود دول وشعوب إلى الوراء بفعل عوامل داخلية وخارجية، وفي كل الأحوال نحتاج إلى فهم للتاريخ ووعي بالتراث ومعرفة طبيعة العلاقة بينهما.