في سبعينيات القرن الفائت، كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قد تمكن للتو من تحقيق نجاحات دبلوماسية معتبرة، خصوصاً في ملفي العلاقات مع كل من الاتحاد السوفياتي السابق والصين الشعبية، وهو الأمر الذي عزز الآمال في قدرته على تحقيق اختراق في ملف أزمة الشرق الأوسط المشتعلة آنذاك.

واستناداً إلى ذلك، فقد شرع كيسنجر في مباشرة الملف الساخن، حيث طلب من مستودعات الأفكار ومستشاري الوزارة إمداده بتحليلات يبني عليها مقاربته للأزمة الشرق أوسطية، ومن بين تلك التحليلات وصلت إليه ورقة صغيرة لا تزيد مساحتها على نصف الصفحة، عنوانها "الخيمة والسوق".

Ad

وكما يروي الصحافي الشهير الراحل محمد حسنين هيكل، فقد كتب هذه الورقة أحد المحللين البارعين في الإدارة الأميركية، قاصداً منها توضيح طبيعة الساسة العرب، وأساليب التفاوض التي يتبعونها، وملخصاً ذلك في أن السياسة في هذه البلدان منوطة فقط برجل يجلس في الخيمة (الرئيس أو الملك)، وأن الأسلوب الذي يتبعه هذا الرجل في التفاوض لا يخرج عادة عما يجري في أسواق المنطقة (المساومة للوصول إلى سعر مناسب).

يبدو أن كيسنجر اعتمد على هذه الورقة فعلاً في مقاربته، ويبدو أيضاً أنه حقق نجاحاً في اختراق القضية الشرق أوسطية، وإعادة ترتيب أوراقها بشكل يخدم الرؤية والمصالح الأميركية.

والسؤال الآن: ماذا لو قيض لهذا المحلل البارع، الذي أنجز أطروحة "الخيمة والسوق"، أن يكتب ورقة مماثلة لساسة العالم، يشرح لهم فيها طبيعة السياسة الأميركية الراهنة في عهد دونالد ترامب؟

ربما سيكون عنوان الورقة المفترضة: "الجدار والسوق".

لا يتوقف الرئيس ترامب عن إدهاش العالم منذ صعد إلى مسرح السياسة الأميركية والعالمية مرشحاً لرئاسة الولايات المتحدة، قادماً من عالم المال والأعمال والإعلام الصاخب، كما يبدو أن الآمال التي عقدها البعض على قدرة ترامب والمؤسسات الأميركية على الاتساق والتفاعل الإيجابي تتضاءل يوماً بعد يوم.

أذهل ترامب متابعيه مرة لكونه صِدامياً ومباشراً إلى درجة وصفها نقاده بـ"الفظة"، لكنه أذهل الجميع مرات لكونه قادراً على البقاء في موقعه حتى هذه اللحظة، رغم استياء قطاعات غالبة من الرأي العام المحلي والعالمي، وتوالي ظهور الفضائح والهنات المتعلقة بإدارته، وبوادر الانقلاب الأبيض ضده في البيت الأبيض، وتصدع القاعدة السياسية التي يُفترض أنها تدعمه وأنه ينتمي إليها ويعتمد عليها.

في نوفمبر المقبل، سيخوض ترامب اختباراً حاسماً، حين يتوجه الناخبون إلى مقار الاقتراع في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس واختيار حكام الولايات، وهو اقتراع سيحسم بدرجة كبيرة مستقبل ولاية ترامب الحالية، وفرصه في الفوز بولاية أخرى.

ورغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى تقدم الديمقراطيين بنحو 11 نقطة مقابل منافسيهم الجمهوريين، فإن إخفاق معظم قياسات الرأي العام في توقع حظوظ ترامب في الانتخابات الرئاسية السابقة، يفرض التعاطي مع الاستطلاعات الراهنة بحذر.

وكما تقول ورقة "الخيمة والسوق" التي استند إليها كيسنجر في مقاربته لمنطقة الشرق الأوسط قبل نحو خمسة عقود، فإن طبيعة السياسة التي تحكم منطقتنا مستمدة من طبيعة شعوبها والسياق التاريخي والاجتماعي الذي تعيش فيه.

سيمكن بطبيعة الحال الاعتقاد بأن نجاح ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض، وقدرته على الاستمرار في موقعه، رغم كل السقطات والاتهامات والانتقادات، تشير إلى وجود أساس مجتمعي يدعم هذا الوجود وهذه السياسة.

تمر الولايات المتحدة ما بعد 11 سبتمبر 2001 بواقع اجتماعي وسياسي مغاير لما قبل هذه الحادثة الفارقة؛ ولأسباب عديدة يمكن القول إن المجتمع الأميركي تغير، وأن النزعات العنصرية وميول الكراهية والتعصب لا تخص بعض السياسيين فقط، لكنها تجد سنداً ودعماً لدى قطاعات مؤثرة في الجمهور، وهو الأمر الذي يجعل من الصعب التنبؤ بنتائج التنافس السياسي على مقاعد الكونجرس هذا الشتاء.

لقد بنى ترامب جداراً بالفعل، لكنه ليس هذا الجدار الذي تعهد بإقامته على الحدود مع الجارة المكسيك بتمويل من حكومتها، لمنع المهاجرين المكسيكيين، الذين وصفهم بـ"المجرمين والمغتصبين"، وإنما هو جدار من العنصرية والكراهية إزاء غير المنتمين إلى جنسه ووضعه الاجتماعي والمالي.

لقد وصف ترامب بعض الدول الأفريقية، وغيرها من دول الكاريبي الصغيرة مثل هاييتي، بأنها "حثالة"، و"أوكار قذرة"، مشيراً إلى المهاجرين الذين يأتون إلى بلاده من تلك الدول، و"يستأثرون بموارد الدولة ووظائفها".

وهو أيضاً من صرح بوضوح قائلاً: "أعتقد أن الإسلام يكرهنا"، وعلق على حديث أم أميركية من أصل باكستاني، قُتل ابنها في حرب العراق، بالقول: "ربما لا يجب أن يُسمح لها بقول أي شيء".

لدى ترامب سجل حافل من التصريحات التي مثلت إهانات بالغة للسود، والمسلمين، والمهاجرين، والدول المجاورة والبعيدة، والنساء، ورغم بشاعة بعض تلك التصريحات، فإنه ما زال قادراً على التمتع بدعم قطاع مؤثر من الأميركيين.

تقول استطلاعات الرأي إن شعبية ترامب تراجعت، وإنه يخسر أرضاً يوماً بعد يوم، وإن معدلات دعمه لا تزيد بين أوساط الجمهور عن 40 في المئة، وهي نسبة أكبر من تخيل نقاده الذين يرصدون أخطاءه وفضائح إدارته المتتالية.

لا يتعلق الأمر بالولايات المتحدة في عهد ترامب فقط، لكن الأمر يجد صدى مسموعاً في بعض العواصم الأوروبية، التي ينجح اليمينيون والمحافظون والقوميون في تعزيز وجودهم السياسي في أطر السلطة المختلفة فيها باطراد.

وبدلاً من أن يتلقى الشرق الأوسط الإلهام والتأثير طائعاً من الغرب، عبر تسييد اعتبار القيم الغربية/ العالمية وتكريس وجاهتها، يتغير الحال اليوم، لتتحول النزعة السياسية الرائجة في الغرب إلى قيم شرق أوسطية لطالما عانت منها المنطقة والعالم.

"الجدار والسوق" تعبير يجد ما يبرره على أرض الواقع؛ عندما ينزع ترامب نحو اقتراح الجدار مادياً مع المكسيك، ومعنوياً مع الشعوب والدول والهويات والثقافات المغايرة، وعندما يقرر أن كل ما تقدمه الولايات المتحدة يجب أن يكون له مقابل، وهو مقابل يجب أن يُدفع "فوراً ونقداً".

تلك حالة غريبة لم يعتدها العالم منذ قرون... الشرق الأوسط مُلهماً للغرب.

* كاتب مصري