قبل حوالي عقدين من الزمن ذهبت الى القاهرة للاحتفال برأس السنة الصينية في مطعم يدعى بكين في حي الزمالك هناك. وحسب ما أذكر عن تلك المناسبة طلب من الموجودين في المطعم التزام الصمت لأن ضيفاً خاصاً كان على وشك الحضور. كان السفير الصيني لدى مصر الذي حضر مع امرأة شابة – مترجمته – التي تتقن اللغة العربية، وقد أعجبت أنا ورفاقي في المطعم من خريجي الجامعة الأميركيين والمصريين والأميركيين من أصل مصري بمهارة هذه المترجمة، ثم بدأنا الاحتفال بتلك المناسبة.

وأذكر اليوم كيف مثلت براعة المرأة الصينية في اللغة العربية استثمارات بكين الطويلة الأجل في بناء دور اقليمي للصين، وقد فهم القادة الصينيون في ذلك الوقت أنهم يسعون الى دور أكبر في تلك المنطقة. وفي أواخر التسعينيات من القرن الماضي بدت تلك الفكرة ممكنة ومقبولة ولكن عندما دخلت الصين في محادثات لهذا الغرض كان رد المسؤولين المصريين هو أن بكين «ليست بديلاً للولايات المتحدة بعد».

Ad

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل وصلنا الى تلك النقطة؟ وفي العاشر من شهر يوليو الماضي افتتح الرئيس الصيني شي جينبنغ المنتدى الوزاري الثامن للتعاون الصيني العربي بخطاب مطول حول التعاون الثنائي والحلول الناجحة بالنسبة الى بكين والعالم العربي. وبعد عدة أسابيع توجه جينبينغ الى أبو ظبي في زيارة استمرت ثلاثة أيام وهي الأولى من نوعها للقادة الصينيين في حوالي ثلاثة عقود وقام خلالها بتوقيع مجموعة من الاتفاقيات التي كانت في معظمها اقتصادية الطابع. ويأتي هذا المؤتمر ورحلة الرئيس الصيني في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط الكثيرمن الاهتمام في بكين ويتجاوز مبادرة شي جينبينغ المعروفة باسم الحزام والطريق التي تهدف الى وضع الصين في مركز الحوكمة العالمية في عملية معاكسة لتدفق البضائع والخدمات والأفكار التي أفضت الى هيمنة الغرب خلال القرون القليلة الماضية.

ومن المؤكد أن الصينيين تحولوا حقا الى لاعبين في الشرق الأوسط ولكن ليس في ما هو أبعد من مسرح اللغة العربية الجميلة.

القروض الصينية

مما لا شك فيه أن الدور الاقتصادي للصين حقيقي وينطوي على امكانيات عميقة بالنسبة الى دول الشرق الأوسط. وقد التزم الرئيس الصيني في خطابه في شهر يوليو الماضي في بكين بتقديم قروض بقيمة 20 مليار دولار الى المنطقة وبمساعدة اضافية بحوالي 90 مليون دولار الى سوريا واليمن والأردن ولبنان من أجل اعادة الاعمار والعناية بالمهجرين والنازحين ومليار دولار آخر الى العالم العربي لأغراض «الاستقرار الاجتماعي». ويأتي هذا اضافة الى استثمارات صينية رئيسية في مصر والسعودية ودولة الامارات العربية المتحدة حيث تتم عملية اعادة تصدير حوالي 60 في المئة من صادرات الصين الى إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا. واستهدفت بكين أيضاً تركيا والسعودية على شكل مراكز رئيسية في مبادرة الحزام والطريق التي سوف توفر امكانية وصول الى البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي.

ولكن الصين تعرضت الى ضربات في جنوب شرق آسيا وأفريقيا حول «الاستعمار الجديد» ولكن بدرجة أقل من العالم العربي وبالتأكيد ليس من قبل المسؤولين هناك. ويذكر أنه في أوائل منتصف الـ 2000 تعرض الدبلوماسيون المصريون الى نظرات غامضة عندما كانوا يتحدثون عن الصين. وفي الآونة الأخيرة لاحظ مسؤول رفيع من دولة خليجية أن الاستقطاب السياسي لواشنطن جعلها شريكاً لا يعول عليه في سعي العالم العربي الى تحقيق التنمية الاقتصادية وقال: «اذا جلست حيث نجلس فسوف تبني مستقبلك الاقتصادي أيضاً على الشراكة مع الصين».

الموارد

في وسع الصينيين احضار الكثير من الموارد لتحقيق ما يصفونه بالتعاون المربح في الشرق الأوسط، ويشمل ذلك الموانئ والمطارات والوجهات اللوجستية والمناطق الاقتصادية المخطط لها أو التي قيد الانشاء في الكثير من الدول (ماعدا تلك المثقلة بالديون مثل عدد من عملاء بكين في إفريقيا) فيما تتمتع الصين بفوائد البنية التحتية وموارد الطاقة في المنطقة التي سوف تسهل تنميتها المستمرة.

ويشير عدد من المحللين الى أن استثمارات الصين المالية في الشرق الأوسط تعني أن بكين سوف تتحول الى لاعب جيواستراتيجي في المنطقة. وهناك طبعاً سابقة تاريخية لهذا التطور: الاحتلال البريطاني لمصر حدث، بشكل جزئي، بغية استعادة ديون الخديوي اسماعيل الى البنوك الأوروبية.

وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن الصين مهتمة بالفرص التجارية أكثر من اهتمامها بأن تصبح الدولة التي تحل مشكلة وتوفر المصدر اللازم لأمن اقليمي. ونظرة عن كثب الى خطاب الرئيس الصيني في شهر يوليو أو بيان السياسة لبكين في سنة 2016 حول الشرق الأوسط يظهر مناقشة مفصلة للجوانب الاقتصادية مع قدر طفيف يتعلق بالجوانب السياسية والدبلوماسية والأمن في المنطقة. وكانت حملة الصين في هذه المناطق فاترة في أحسن الأحوال، وقد أعلنت بكين دعمها لحل الدولتين في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي وعارضت الجهود الأميركية الرامية الى وقف تصدير النفط الايراني كما يتبين من حجم مستوردات الصين من نفط طهران اضافة الى معارضتها لأنشطة المتطرفين والارهابيين. وثمة منطق معين يشير الى أن اعتماد بكين على الهيدروكربونات من الشرق الأوسط يعني أنها سوف تنخرط في الجوانب الأمنية والسياسية في المنطقة.

وبعد قول ذلك كله، ماذا حقق الصينيون على صعيد الواقع؟ لقد استضافوا بشكل نسبي وفوداً متدنية المستوى من الفلسطينيين والاسرائيليين في بكين العام الماضي وكرروا دعمهم لحل الدولتين على أساس حدود عام 1967 مع القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية – وهي نقطة بداية محكومة بالفشل. وأقامت بكين قاعدة بحرية في جيبوتي تقع عند باب المندب حيث يلتقي البحر الأحمر مع خليج عدن – وقامت السفن الحربية الصينية بزيارات الى موانئ في الشرق الأوسط. وقد تبشر هذه الأنشطة بدور أوسع في المستقبل، ولكن ليس من الواضح في الوقت الراهن ما اذا كان لدى الصين الموارد العسكرية من أجل وجود مستدام في المنطقة. ويبدو رد بكين على محاربة المتطرفين قد اقتصر على تطويق طائفة الايغور واحتجازها في معسكرات اعادة تعليم وهي قضية التزمت حكومات الشرق الوسط الصمت حيالها.

من جهة اخرى، لا يتوقع أحد في الشرق الأوسط قيام الصين بتوفير الأمن الذي توفره الولايات المتحدة وهو ما يشعر بكين بالارتياح للاستفادة منه، ومع اظهار واشنطن لقدر أقل من الشهية للانخراط عسكرياً في المنطقة تطلعت دول الشرق الأوسط الى روسيا أو تكفلت بنفسها في ضمان مصالحها في سورية واليمن أيضاً.

صعود القوة الصينية

وبعكس التعليقات الواسعة حول كون الصين قوة صاعدة في العالم العربي فإن أسلوب بكين ازاء الدراما والمحن في الشرق الأوسط لصالح القضايا الاقتصادية هو موقف ينم عن ذكاء وبراعة بالنسبة الى طموحاتها الأوسع. وعلى سبيل المثال، بعد يوم واحد من اطلاق الولايات المتحدة 59 صاروخاً من طراز كروز على أهداف سورية – فيما كان الرئيسان ترامب وشي جينبينغ يستمتعان بتناول الحلوى في مار ألارغو قمت أنا بالاتصال هاتفياً بصديق لي في بكين لمعرفة ردة فعل الصين على تلك العملية. وقد ضحك وأبلغني أن أحداً في العاصمة الصينية لم يتأثر باظهار الولايات المتحدة لتقنية عصر الثمانينيات من القرن الماضي. وأضاف: «أي شيء يبقي الولايات المتحدة غارقة في أزمة الشرق الأوسط يعتبر جيداً بالنسبة الى بكين لأن ذلك يجعل واشنطن أقل قدرة على انفاق مواردها في بحر الصين الجنوبي»، وذلك أمر معقول، وقد حان الوقت كي تدرك بقية دول العالم ذلك.