في يوليو الماضي، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء جنوب العراق نتيجة تردي الخدمات وعدم توفر الكهرباء، وسوء نوعية المياه، وزيادة معدلات البطالة. وفي حين أن التظاهرات كانت شائعة خلال أشهر الصيف الحارة في جنوب ووسط العراق، إلا أنها كانت أوسع نطاقا من حيث المشاركة هذا العام، حيث امتدت إلى مدينة البصرة التي تعد عاصمة العراق الاقتصادية كونها تمثل المصدر الرئيس لموازنته الاتحادية.

وبينما تزايد قلق المراقبين المحليين والخارجيين من طبيعة الاحتجاجات الشعبية في البصرة، من الضرورة بمكان أن نتذكر السياسات التي دفعت المنطقة إلى التظاهر في المقام الأول، فاحتواء البصرة على ثروات طبيعية وكونها مقرا لعدد كبير من الشركات المتعددة الجنسيات التي تستثمر في مختلف القطاعات وأهمها النفط والغاز فضلا عن التواجد الدولي من قنصليات وغيرها من ممثليات، يظهران مدى الأهمية التي تتمتع بها تلك المدينة.

Ad

وفي حين أن الاحتجاجات الحالية قد عبّرت عن نفسها من خلال الخطابة السياسية المتزايدة، من الضروري أن نتفهم الجذور الرئيسة لتلك المشكلة، حيث تفتقر البصرة لأهم الموارد الأساسية، وقد تفاقم هذا الوضع على الصعيدين القومي والإقليمي، إذ تعتمد المدينة بشكل رئيس على مياه شط العرب التي تعاني منذ سنوات ارتفاع نسبة الملوحة بعد إغلاق إيران نهري الكارون والكرخا وتحويلهما إلى داخل أراضيها بشكل كامل، إضافة إلى انخفاض تدفقات المياه القادمة من نهري دجلة والفرات بسبب بناء سد أليسو التركي. وفي حين بلغت نسبة الملوحة في ناحية السيبة (4000) جزءاً من المليون. وفي الوقت ذاته تتعالى أصوات أهالي البصرة العراقية المحتجة، والتي تتهم إيران بتلويث شط العرب من خلال نفايات المصانع والمفاعلات النووية التابعة لها جراء مخلفاتها التي تؤثر على المياه في البصرة؛ ما تسبب في ارتفاع معدلات تلوث المياه.

وتزامن كل هذا مع فرض العقوبات الأميركية على ايران وانهيار عملتها، وتعرض تجارتها للخطر مع العراق لاسيما بعد قرار البنك المركزي العراقي بتوقف التعاملات الدولارية مع طهران والتي بلغ تبادلها التجاري اكثر من 13 مليارا و 210 ملايين دولار العام الماضي، منها 6.5 مليارات من هذا الحجم يتعلق بالبضائع غير النفطية، حيث احتلت ايران في هذا المجال المركز الأول بين سائر شركاء العراق التجاريين.

وفي حين أن بعض الواردات الإيرانية للعراق قد تساهم في دعم الإنتاج المحلي على المدى الطويل، إلا أن ذلك قد أدى إلى فرض المزيد من الضغوطات على المستهلك المحلي خلال هذا الصيف. علاوة على ذلك، فإن الحكومة العراقية لديها التزامات معينة تجاه الولايات المتحدة في ما يخص مسألة فرض العقوبات على إيران، حيث تحكمها اتفاقية الإطار الاستراتيجي، وهو ما قد يتسبب في تقليص الخيارات قصيرة المدى المطلوبة لمعالجة الوضع الاقتصادي في البلاد. وقد دفع الإحباط من الضغوط الإقليمية المتظاهرين إلى استهداف المباني الحكومية المحلية والقنصلية الإيرانية. وما أتت حالة الإحباط هذه من فراغ بل كانت نتيجة للضغوط التي تمارسها إيران على البصرة، والتصدع الهيكلي الذي حل ببنية الدولة العراقية والذي عجل باندلاع الأزمة، فقد تسبب قانون رقم 21 لسنة 2008 وتعديلاته الثلاثة، والذي حول منذ عامين جزءاً كبيرا من صلاحيات الحكومة الاتحادية في 8 وزارات خدمية إلى الحكومات المحلية ومجالس المحافظات والمحافظين، في ظهور بعض المشاكل والأخطاء بسبب عدم وجود الخبرة الكافية في إدارة ملفات مشاريع خدمية واستثمارية كبرى من قبل الحكومات المحلية وعدم اتجاهها إلى مشاريع ذات أولوية وأسبقية للمواطنين مع عدم المتابعة.

ونتيجة لذلك، تأخر عدد من المشاريع الرئيسة بسبب سوء الإدارة، في حين أن المؤسسات المتخصصة في مجال البنية التحتية والاستثمار والتي اثقلها حجم العمل، باتت مسؤولة عن إيجاد حل للقضايا طويلة المدى التي تمر بها المنطقة. ومع تواصل المظاهرات وأعمال الشغب ووفاة عدد من المتظاهرين، وجه رئيس الوزراء العراقي د. حيدر العبادي أصابع الاتهام إلى مجالس المحافظات وحكوماتها المحلية بالتقصير، حيث قال خلال مؤتمره الصحافي أخيرا «حذرنا المحافظات من أن نقل الصلاحيات إليها سيسبب مشكلة لها لأنها لا تمتلك الهيكلية الكاملة لإدارة هذه المؤسسات، لكنهم قالوا إنهم يستطيعون إدارتها وهذا ما خلق المشكلة».

ويبدو الآن أن هناك اعترافا من قبل الحكومة المركزية بأن السياسيين المحليين في البصرة قد أصبحوا غير قادرين على التعامل مع إدارة مشاريع الخدمات الحيوية التي يحتاجها سكان البصرة. وقد تعاطت الحكومة بشكل مختلف مع الأزمة وذلك بعقد لقاءات مع ممثلي 9 محافظات، انتهت بإصدار جملة من القرارات التي تتابع من قبل اللجان المحلية وتديرها الجنة العليا للإعمار والخدمات والتي يرأسها رئيس مجلس الوزراء.

وتبقى المشكلة الأكبر هي صلاحيات الإطلاقات المالية التي تكون جزءاً مهماً من إطلاق الوظائف في القطاع الحكومي وتسديد مستحقات المشاريع المتوقفة. إن عدم القدرة على التصرف تجاه تلك الأزمات أصبح يثير الدهشة خاصة أن شركات النفط التي تنشط في عموم المحافظات الجنوبية تعمل حاليا على زيادة إنتاج النفط بنسبة 80 في المئة تقريبا.

سنوات عدم كفاية الخدمات، والفساد المؤسساتي، وتدهور البيئة، وانعدام الأمن- سيما من قبل الحكومات السابقة وسياسات المحاصصة تركت القليل من الحلول وانعكس الأمر استياء مبررا في شوارع البصرة. وهناك ضرورة لإشراك الحكومة المركزية في حل الأزمة إذ لا يمكن السماح لتلك الإدارة العامة غير المؤهلة بالاستمرار، خصوصا أن الضرر الذي لا يمكن إصلاحه قد تم حدث بالفعل.

إن الإصلاح الفعلي للأزمة - التي قد تخف وطأتها مع اقتراب الخريف، والتي من المتوقع ألا تختفي بشكل كامل من مدينة البصرة - سيتطلب بذل المزيد من الجهود المستمرة لزيادة الاستثمار في المنطقة، بما في ذلك استمرار العمل بمشاريع تحلية المياه في جنوب العراق، واستكمال مشروع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة في البصرة الذي تم اقتراحه في عام 2013، ونصب مضخات تحلية مياه البحر من جهة الخليج. كما يجب إعادة تأهيل النظام الهيكلي والمؤسسي لإدارة اقتصاد المحافظات باشراك القطاع الخاص في قيادة المؤسسات الاقتصادية لتعظيم الإيرادات، وهو ما تحتاجه كل من المحافظة والحكومة المركزية العراقية بشدة. وعوضا عن تحويل مسؤولية البنية التحتية إلى المحافظات، يمكن للحكومة المركزية العمل على تفعيل الصلاحيات اللامركزية النقدية والمالية في المحافظات وتنفيذ الخطط التنموية الخمسية بصورة فعلية وفي وقتها المحدد سيما خطة التنمية الوطنية (2018-2022).

وختاما، من الواضح أن هناك العديد من المسارات المحتملة التي يجب أن تتبعها الحكومة العراقية وحلفاؤها للتخفيف من حدة الأزمة التي تواجهها البصرة حاليا، ومع ذلك، يكمن التحدي الحقيقي في التنفيذ المثمر لتلك الخطط والالتزام بالعمل على تحسين الأوضاع في المحافظة على المدى البعيد. وقد يؤدى استمرار الفقر الممنهج وابتعاد الصناعات المتجهة نحو النمو والتي ستستفيد منها الأيدي العاملة في مدينة البصرة إلى استمرار معاناة سكانها وبالتالي اندلاع الاحتجاجات مرة أخرى.