ما زلت أستكمل سلسلة المقالات حول المواضيع المثارة في برنامج الأستاذ عمار تقي "مثير للجدل"، حيث راسلني أحد الأصدقاء يسأل عن رأيي في موضوع تعدد الزوجات بما أنني من المنادين باتساع حرية الاختيار لا تضييقها. تعدد الزوجات هو نوع من أنواع التشكيل العائلي الذي يحق لكل الأطراف البالغة التي تدخل في تكوينه برضاها أن تختاره وتعيشه، إلا أنني لا يمكن أن أنفي نفوري الشديد من هذه الممارسة كامرأة لا تقبل مشاركة أحد لها في شريك حياتها كما لا يقبل هو مشاركة أحد له في شريكة حياته، وهذه مشاعر إنسانية طبيعية غريزية في رأيي بعيداً عن كل التحليلات البيولوجية والدينية والأخلاقية. الشعور بامتهان الكرامة واحد، الألم واحد، الحرقة واحدة، والغيرة الإنسانية واحدة، تستشعرها المرأة كما يستشعرها الرجل تماماً، تغضب كما يغضب، تتألم كما يتألم، تثور كرامتها كما تثور كرامته، ولربما، إذا أخذنا بحجة المحتجين بعاطفية المرأة التي تفوق عاطفية الرجل، أقول لربما يكون ألمها وغضبها ووجع كرامتها أكبر بكثير.

نفوري الشخصي وحجتي أعلاه لا يمكن أن يكفيا لرفض مفهوم تعدد الزوجات، خصوصاً إذا ما دخلت الزوجات في حيز تنفيذ هذا التعدد برضاهن التام. في رأيي هناك مفهومان أبني عليهما أنا شخصياً رفضي لموضوع تعدد الزوجات، الأول هو مفهوم المساواة بين المواطنين في الدولة المدنية، وهو ما لا يمكن تحقيقه في موضوع التعدد، أي لا يمكن للنساء أن يطالبن بمساواتهن في هذا الحق في يوم، فتعدد الأزواج (وهي ممارسة ما زالت موجودة في بعض المجتمعات البدائية مع اعتذاري عن عنصرية التوصيف) هي ممارسة منفرة بشكل أكبر من تعدد الزوجات لربما بسبب مفاهيم معظم المجتمعات البشرية وعاداتنا وأيديولوجياتنا الغائرة في القدم والتي أصبحت تشعرنا برفض تلقائي ونفور نفسي وجسدي من الممارسة. ولأن الحق المدني المواطني يفترض أن يكون واحدا، فإن ما هو ممنوع على المرأة يفترض أن يكون ممنوعا على الرجل كذلك، ولا يجب الحيد عن هذا المنطق بين المواطنين إلا في الحالات الشديدة الاستثنائية. أما المفهوم الثاني فيتعامل مع صحة العائلة الصغيرة وضرورة بناء قاعدة آمنة محكمة لها. كان هذا الجدل يدور لفترة طويلة في تونس والتي انتهت بمنع تعدد الزوجات بشكل كامل والسبب أن التعدد يخلق مشاكل مجتمعية كثيرة خصوصاً في مواضيع الإرث، كما أنه يضعضع من بناء الأسرة النووية ويخلق كراهية بين الكثير من الأسر وأفراد المجتمع، ويحرم، وهو السبب الأهم، الزوجة الأولى التي عادة ما تكون صبرت وصابرت، حقوقها المالية والنفسية ويشرك معها أخرى في منزلها وفي مدخول أسرتها. الطرف الدافع بالتعدد كان يحتج بأن منع التعدد سيرفع من نسبة الممارسات المحرمة في المجتمع ليأتي رد المشرع أن الحرام يفترض أن يتحمله صاحبه، ويدفع ثمنه وحده، وهو ما يجب أن يكون عوضاً عن تحميل أسرة كاملة ثمن رغبات الرجل، فالدولة معنية بحماية مواطنيها في هذه الحياة، حماية حقوقهم وراحتهم وصحتهم البدنية والنفسية وغير معنية بحمايتهم أخروياً أو بضمان إثابتهم أو دخولهم الجنة. من هنا، وعلى حساسية أن الرفض يعرقل الأسر المتعددة والتي تدخل لهذا التعدد برغبتها وإرادتها، وعلى تفهمي لبعض الأوضاع الشائكة التي تفضي قسراً أحياناً إلى هذه المنظومة التعددية الأسرية، إلا أنني أعتقد أن حفظ حقوق المرأة وحفظ حقوق الأسرة الصغيرة والكبيرة وحفظ الأمن والاستقرار العائلي للأبناء في الأسر، كل ذلك مدعاة للميل باتجاه منع التعدد عن إباحته في رأيي. مرة أخرى، وكما ذكرت في المقال السابق، فإن النقاش حول أي موضوع تشريعي في الدولة المدنية يفترض أن يبنى على حجج منطقية مدنية ويا حبذا لو كانت ذات جانب علمي بحثي، حيث يفترض في المشرع، الذي على الرغم من أنه لا مفر له من أن يأخذ الجانب الاجتماعي والديني والتقاليدي لمجتمعه بعين الاعتبار عند التشريع، أن يبقي نظرته حيادية قدر الإمكان وأن يقف على المسافة ذاتها من كل الأطياف في بلده، وأن لا تدخل منظومته الأخلاقية والدينية الخاصة في تشريعه إلا في أدنى وأضيق الحدود.

Ad

كل هذا الحديث يعود بنا إلى نقطة الانطلاق الأولى وهي الدعوة إلى إصلاح الخطاب الديني وفتح باب الحوار وإعادة القراءة والفهم والتفسير بما يتواءم وروح العصر والمفاهيم المستجدة، خصوصاً عند مناقشة قضايا مثل التعدد أو الميراث أو الحجاب أو القوامة وغيرها من قوانين الأحوال الشخصية أو القضايا الأخلاقية أو الدينية ولربما الخاصة بالمرأة تحديداً، والتي كلها لا يمكن أن تبقى بمنأى عن التأثر بمرور الزمن ومتغيراته ومستجدات الدنيا وتقلب أحوالها وموازينها، وأحياناً تغير حتى أشد مبادئها صرامة وثباتاً. لا عيب في إعادة النظر ومراجعة المفاهيم حتى تكون ابنة عصرها ومتوائمة مع زمنها، بل الخير كله والصحة كلها في فتح الأبواب وتجديد الهواء وإعمال ثم إعادة إعمال العقل.