رغم سخونة الأجواء في سماء الخليج الملبدة بالغيوم السوداء والخوف من عواصف قادمة وأخرى مرت ولا تزال آثارها هنا وهناك، رغم كل ذلك فإن بعض أهلنا في الخليج حملوا حقائبهم ككل عام وارتحلوا إلى أصقاع الأرض الأربعة، كلٌ حسب حسابه البنكي وقدراته المالية أو حتى ما يستطيع أن يقترضه من بنوك تتفنن في استغلال الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به دول المنطقة ككل، إن لم يكن كل العالم وشعوبه التي أنهكتها القروض المزمنة مجاراة لنمط حياة أوسع من الجيب!

تكتظ المدن والشواطئ القريبة منها والبعيدة بأطياف من شباب وشابات وشيوخ ونساء ورجال كلهم يبتغون مساحات ربما للترفيه والترويح عن النفس، وهرباً من صيف غائض لا يتحمله شجر ولا بشر ولا حجر، أو ربما لبعض الحرية المفقودة في أوطان أتقن مواطنوها العيش أكثر من حياة في اليوم الواحد، ينتقلون من أقاصي المحافظة ومظاهر التدين إلى الحريات الكاملة التي تبدو في كثير من الأحيان تعبيراً أكبر عن حجم الأزمة الاجتماعية التي تعيشها هذه الأوطان قبل الأزمات السياسية والاقتصادية.

Ad

وضمن نمط استهلاكي تُشرب في ثقافة الخليج بعد النفط، لا يمكن أن تكتمل السفرات والرحلات دون المرور عبر المراكز التجارية والتسوق في الشانزليزيه، ونايتس برغ، وأوكسفورد ستريت، في طقوس تسوقيه تشبه الهوس بالاستهلاك من أجل الاستهلاك، رغم أن مدنهم قد اكتظت بمراكز التسوق التي أصبحت مع الوقت المساحات المفتوحة الوحيدة للترفيه، حتى لو كان عبر النظر إلى الفاترينات لكل الذين لا يملكون إلا رفاهية التفرج، فالخليج ليس كله أثرياء كما يعتقد البعض أو حتى متوسطي الحال كما لا تزال تنشر الصحف التي لم تستطع حتى الآن فهم هذه المنطقة عبر دراسة معمقة لها، وفضلت الصور النمطية الممجوجة.

في منتصف الصيف أو أواخره يغتسل الخليجيون من "إثم" زيارات مدن "الكفار" أو من ممارسة بعض الكفر بالاتجاه صوب مكة، فهذا موسم الحج، إذاً لنخلع الشورت والملابس المختصرة جدا والمايوهات وغيرها، ولنستر الجسد نفسه بالملابس البيضاء النقية ونتحول من الملاهي الليلية إلى السهر في التعبد وترتيل القرآن في الحرم المكي.

تبدو الصورة طبيعية جداً للكثيرين، حتى أن القليل من الممارسين نفسهم لهذه الازدواجية المرضية بعض الشيء يتحدثون عنها بشكل من البساطة المتناهية، حتى يخيل لك أنك تستمع إلى فيلم بوليوودي رخيص عندما يسقط البطل من السماء لينقذ البطلة من أيدي عصابة الأشرار فيصفق الجمهور المسكين فرحا بهذه القدرات التي تفوق قدرات البشرية!

يعود بعضهم سريعا من شواطئ كانت لا تعرف النوم إلا عند ساعات الصباح الأولى من الجزر اليونانية أو الريفيرا الفرنسية أو الإيطالية إلى أوطانهم لسويعات حتى ينتقلوا من طقوس الإجازة والتماهي بالسياح الآخرين، إلى طقوس العبادة والخشوع وتغطية الجسد "العورة" والشعر أيضا هو الآخر موضع نقاش مطول في أوطان كثر فيها الجوع والفقر والبطالة بين أكثر فئات الشباب. فيبدو أن أولوياتنا الآن هي: هل الحجاب فرض على كل مسلمة، وحديث مطول عن الثواب والعقاب؟

لا بأس إذاً في مثل هذه الأجواء والناس بمجملها مغيبة في بحور الحوارات السطحية والغوص في فهم دخول المنزل بالرجل اليمنى، فيما ترسم خرائط مستقبلهم على رمال الصحراء، وتنتشر القواعد العسكرية وتقترب منهم البوارج، وتمتلئ سماؤهم التي لم تكن سوى سكن للنجوم الهادئة والحالمة، تتحول إلى مساحات مفتوحة للطيران الحربي القادم من كل حدب وصوب، ومع كل ذلك ينغمس الجميع في فعل ما يبدو- أو ما فسره لهم ذاك الشيخ الذي لم يتعدّ في علمه ومعرفته الابتدائية– شكلاً من أشكال الكفر لبعض الوقت الذي يمحوه بالطواف حول الكعبة والاستغفار، أليس الله غفورا رحيما؟! إذاً فهو قادر على أن يمحو كل تلك المعاصي المظهرية البحتة فيما الحديث عن المعاصي الحقيقية لا يقترب منه أحدهم لأن فيه مساً بالهامات الكبرى وأولي الأمر!!

مرحى للقادمين من شواطئ لازوردية إلى رحاب الحج ليغتسلوا ثم يعيدوا ارتكاب المعاصي حتى موعد الحج القادم، هذه الازدواجية القاتلة التي ستتحول يوماً ربما إلى مادة للكتب المدرسية حول تاريخ كان لأشباه مدن وأشباه دول وأشباه شعوب.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.