أن تصمت أفضل في مجتمعات لا تحب أن تسمع إلا صوتها الأوحد، ومؤسسات لا تحتمل أي صوت أو رأي آخر، يغرد المغردون خارج أسراب القطعان فينتفض القطيع بأكمله ليدافع عن ثقافة الصوت الواحد والأمر الواحد والرأي الواحد، أو وصم المغردين خارج الأسراب بالعمالة والخيانة والرضوخ للأجندات الأجنبية! مثير أمرهم لأن الوصم بالعمالة مرتبط بدول تبدو في مجملها صديقة حميمة لتلك الحكومات نفسها ولن أقول الدول أو الشعوب!

يسود الصمت حتى تتصور أن بعض المدن قد تحولت إلى مقابر جماعية يتحرك فيها البشر بأنماط مرسومة ومتفق عليها، ولا يحق لأي منهم أن يخرج عنها حتى لو كان ذلك عبر رفع شعار هنا أو يافطة تحمل مطلباً أو رأياً مخالفاً، فهنا يتحول هذا الخارج عن صمته، المتمرد على ثقافة القطيع إلى "مخرب" أو ربما "إرهابي"، فقد اختلفت تعريفاتهم للإرهاب والإرهابيين حتى أصبحت تعني كل من يخالفهم أو يحاول، مجرد محاولة، الخروج عن الصوت الواحد.

Ad

انخفضت الأصوات حتى خيل للبعض أن هناك حالة جماعية من فقدان القدرة على النطق، أو هو ربما وباء ضرب الأمة أو ما كان يعرف بالأمة، فقد كانت ضرباً من الخيال ربما، وأصبحت واقعا مريرا من التقسيم، وهم لا يزالوان يرددون حال الأمة فيما هم يجلسون في الغرف المعتمة يقسمون المقسم معاً، ويتصورون أنهم منتصرون حتماً رغم أن الحكمة الأزلية منذ نعومة الأظفار كانت عن مزايا الجمع حتى أصبحت تلك الرواية للشيخ الذي جمع أبناءه، وعلّمهم كيف أن حزمة العصي لا تُكسر في حين تتحطم فرادى رمزا. تلك الرواية التي يرددها الكبار على مسامع الأطفال حتى حين يكبرون يخالونها جزءا من أفلام الخيال العلمي مقارنة بواقع لا يشوبه سوى الاقتتال والفرقة، ومزيد من تقسيم المقسم أصلا.

في يوم غردت العصافير طويلا فوق ذاك النهر الطويل حتى قامت الجموع لتقلدها وراحت تبحث عن حبالها الصوتية المفقودة، وإذ بها تكتشف أن لها صوتا جهوريا طاف المدينة وتعداها إلى المدن والقرى والنجوع المجاورة، ثم عبر البحار والمدن البعيدة وحتى المحيطات، حتى أصبح هو الأكثر تغريدا بين ملايين الأصوات.

قام آخرون في مدن بعيدة، وعن صوتهم بحثوا ربما غيرة من ذاك الذي لا يبعد كثيراً أو ربما تقليدا له أو محاولة للتماهي، وفجأة ضاق الفضاء بالأصوات القادمة من كل حدب وصوب، وأصبح ذاك الشعار لأول مرة ذا قيمة حقيقية "لا صوت يعلو فوق صوتهم"، أولئك الذين تصوروا لسنين عدة أنهم بلا صوت ولا ضمير ولا وجود، فقط أشباح تتمايل كلما قيل لها ذلك، قطاعان من أشباه البشر دون رائحة ولا لون، فكيف يكون للإنسان، للبشر أي وجود دون رأي ودون صوت؟

للحظة خال لهم أن صوتهم هو القادر على إنهاء حالة العزلة التي كانت والتيه الممتد لسنين طالت حتى أصبحت كأنها القدر، تواصلوا وتنادوا من مختلف مشارب الأرض، تحدثوا بكل اللغات وتفاهموا لأن شغفهم للحرية جمعم ووحّدهم جميعا في زمن الصوت الواحد والقطيع الممتد حتى آخر الأفق.

لم يكن من السهل على أولئك الكارهين للأصوات إلا الأقبح منها أن يحتملوا هذا الكم من التغريد خارج القطيع حتى غطى السرب السماء، فأصبحت بألوان قوس قزح ممتد، وساروا جميعا بلغاتهم المختلفة وألوان بشرتهم وتفاصيل وجوههم المتعبة من زمن الصمت الطويل، جميعا ساروا نحو كبد الشمس متحدين ثقافة القطعان التي رسخها بعضهم، ونحتوها في كتب مدرسية لا تحمل من الواقع سوى كثير من الصور للبلهاء والأغبياء، أصحاب النياشين والابتسامات المصطنعة والألقاب التي تطول حتى يبدو من الصعب تذكر الاسم الأول، عندما يتحول إلى شكل من أشكال الانتماء والهوية المصطنعتين والغريبتين عن ثقافة ذلك المجتمع وتاريخه!

كما شركات الأدوية التي تحتكر العلاج للأمراض المستعصية، هي تلك الفئة التي حاربت الأسراب المغردة، والتي راحت تمنح الأمل لبعضهم أو لأكثرهم بأن الشفاء من وباء الصمت المطبق ممكن بل ضروري، فراحت الفئة نفسها تسخر كل قدراتها لإسكات الأصوات وإعادة الحال كما كانت عليه قبل أن يخرج ذاك المبشر ليعلن أن المرض ليس مستعصياً كما أوهموهم، وأنهم يملكون كل القدرة على الخروج عن القطيع ورفع الصوت عاليا.

كانت تلك حالة من اليوتوبيا التي لم يسمح لها أن تمتد أو تطول، فكان أن أخمدت الأصوات سريعا وراح الجمع يردد "أن تصمت أفضل، أن تصمت أفضل"!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق المصرية»