لماذ لم تنجح الدول العربية في تحقيق حداثة عربية إسلامية، بعد الاستقلال وإلى اليوم، في حين نجحت دول عديدة، كانت تحت الاحتلال، في تحقيق حداثة عصرية، ونهضة شاملة: اليابان، والهند، ودول النمور الآسيوية وغيرها؟!

هناك بالطبع إجابات عديدة، تختلف باختلاف مشارب أصحابها الفكرية والسياسية، لكن إجابتي بإيجاز: إنه خطاب الكراهية، كراهية الغرب المستعمر، ومن ثم كراهية حضارته ورفضها ومعاداتها بوصفها حضارة مادية صليبية حاقدة ومعادية، لا تريد بالعرب خيراً، ولا يأتي منها إلا كل شر.

Ad

وعلى امتداد ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن اشتغل على ترويج هذا الخطاب، وغرسه في بنية المجتمعات العربية: مناهج تعليمية، وخطاب ديني وثقافي وسياسي، ونظام سياسي، و3 تيارات فكرية وسياسية ودينية رئيسة حاكمة لدنيا العرب، السياسية: التيار الديني بنسخه المختلفة: الصحوي والتقليدي والمتطرف، والتيار القومي بنسختيه: الناصري والبعثي، والتيار اليساري، جمع هذه التيارات الثلاثة خطاب سياسي مشترك، وهو خطاب كراهية الغرب، باعتباره العدو الدائم، المتربص والمتآمر والمعوق لنهضة العرب، وحال دون توحدهم، برسمه للحدود القطرية، وزرعه إسرائيل في قلب الأمة العربية، وهيمنته على المقدرات العربية.

الغرب، في أدبيات هذه التيارات الأيدولوجية الثلاثة، وحش إمبريالي، خرج لفرض هيمنته على العالم، والتهام موارده، وإفقار الأمم الأخرى، وإقحام العالم في حروب بلا نهاية، طبقا لأمير طاهري، وهو يسعى، بوجه خاص، إلى تذويب الهوية العربية الإسلامية، وتغريب المرأة العربية، وإضعاف تمسك العرب والمسلمين بثوابتهم الدينية والوطنية والقومية.

هذا الخطاب المرتاب في الآخر المتفوق، والذي لم يميز بين الغرب المستعمر والغرب الحضاري، هو الذي حال دون الإفادة، من عوامل تقدمه، وتحقيق إنجازاته الحضارية وفتوحه المعرفية والعلمية والتقنية، ونظمه السياسية والإدارية والحقوقية، كما فعلت الأمم الأخرى، والتي نكبت بأشكال من الاستعمار، أشد وطأة وأقسى استعباداً، مما نكبت به الدول العربية، لكن قادتها، وهم في سعيهم النضالي إلى الاستقلال من المستعمر الغربي، كانوا على وعي بالتفرقة، بين الغرب المستعمر، والغرب الثقافي والحضاري، وكانوا مدركين بوضوح: أنه لا تقدم ولا نهوض ولا حداثة إلا بالإفادة من أسرار التقدم الغربي، والإقبال على حضارته، والإفادة من معارفه وعلومه، والأخذ بنظمه، والحرص على تعليم النشء لغته، وتحبيبهم فيها، لم ينشغلوا بخطاب تحريضي يملأ صدور ناشئتهم غضباً وكراهية ضد من استعمرهم واستبد بهم، بالأمس تجاوزوا المرارات السابقة، وتغلبوا على مشاعر العداوات الماضية، واستطاعوا أن يصنعوا نماذجهم التنموية والحداثية المتقدمة، بل نافسوا بإنتاجهم وإنجازاتهم التقنية وصناعاتهم، إنتاج مستعمريهم السابقين وصناعاتهم، هكذا فعلت اليابان، والهند، وبقية النمور الآسيوية، في حين ظل العرب يجترون المرارات، ويعسكرون منظومتهم التربوية والتعليمية والمعرفية، ويتخندقون في حصون الماضي، مغتبطين بوضعهم، يرددون: نحن خير أمة أخرجت للناس، وقد كنا بالأمس سادة العالم، والحضارة المعاصرة مدينة لنا.

وحدها تونس بين الدول العربية شكلت استثناء فريداً في هذا المجال، نجحت ثورتها، وحققت إنجازا تنموياً وتشريعياً وسياسيا، وحداثة فكرية، طبقا للكاتب الأميركي من أصل أردني صفوان مصري في كتابه المتميز "تونس: فرادة عربية"، ولكن لماذا؟! لأن قائد نهضتها، بورقيبة، وهو يناضل لتحرير بلاده من قبضة المستعمر الفرنسي، لم يكن معادياً لثقافة المستعمر ولغته، بل حرص على تعليم النشء لغة المستعمر وثقافته وحضارته ونظمه، بامتلاك أسباب الحداثة الحقيقية واعتبارها "الجهاد الحقيقي والأكبر"، فتجنب الانفصام الذي وقع فيه الآخرون بين توسل حضارة الغرب، ولعنها والدعاء عليها بالدمار وتحريض ناشئتهم عليها، لماذا لا ندرس الغرب بدل أن نعاديه؟ ترى ماذا نفعل إذا سقطت الحضارة الغربية، طبقاً للكاتب الكويتي خليل حيدر؟!

ختاماً: شحن عقول الأجيال وأفئدتهم بخطاب الكراهية، لعقود طويلة، أفرز ثقافة تدمير الذات، التي أنتجت شباباً متطرفين، حول طاقاتهم من ميادين البناء والتعمير إلى ميادين الهلاك والتدمير (في سبيل الله تعالى). لقد ضَل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!

* كاتب قطري