لو لم يكن ستيف بانون موجوداً لاضطرت وسائل الإعلام إلى ابتكاره، وهذا ما فعلته عموماً، فحوّلت التغطية الأميركية بانون إلى راسبوتين ترامب، محملةً إياه وحده مسؤولية صدمة انتخابه الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، وها هو بانون اليوم يعبر الأطلسي مع تحدث تقارير صادمة عن "خطته لخطف أوروبا لمصلحة اليمين المتطرف"، فقد جاء لقاؤه مع وزير الخارجية السابق بوريس جونسون للتخطيط "لخطوات جديدة قد يكون لها تأثير كبير في السياسات الأوروبية".

تُعتبر فكرة وجود عبقري شرير، وخصوصاً في صفوف اليمين المتشدد، جذابة، لكن بانون ليس راسبوتين ترامب ولا عبقرياً سياسياً، فعندما أصبح كبير استراتيجيي البيت الأبيض، صُوّر بانون كما لو أنه الرئيس الفعلي، والرجل الذي ملأ ترامب الفارغ سياسياً بأجندة يمينية متطرفة، ولكن بالنظر إلى تأثيره المتواضع في الولايات المتحدة، فإن هناك ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن بانون قد يحقق نجاحاً أكبر في أوروبا، مما قد يجعل مؤسسته الفكرية، التي تُدعى على نحو مبالغ فيه "الحركة"، والتي ترغب في استقطاب 10 موظفين بدوام كامل قبل الانتخابات الأوروبية عام 2019 بغية التأثير في نتيجتها، تنجح في مضاهاة مؤسسة المجتمع المفتوح التي تسعى إلى منافستها، والتي تملك هبات تفوق 18 مليار دولار.

Ad

كيف يستطيع أميركي مهزوم تحقيق ما أخفق في بلوغه طوال عقود سياسيون وأحزاب منظمة، توحيد اليمين المتطرف الأوروبي؟ من الواضح أنه عاجز عن ذلك، وإعلانه ادعاء مماثلاً لا يقل سخفاً عن مسارعة وسائل الإعلام إلى نشره من دون أي انتقاد.

صحيح أن بانون قريب عقائدياً من أحزاب مثل الجبهة الوطنية الفرنسية والرابطة الإيطالية أو سياسيين يمينيين متطرفين مثل رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربن، إلا أنه يظل في رؤيته أميركياً على نحو متميز، فقد أطلق أجهزة الإنذار لدى اليمين المناهض للولايات المتحدة في جنوب أوروبا، فضلاً عن ذلك، يعتقد قليلون في أوروبا أننا "نخوض حرباً مع الصين"، فحليف بانون المزعوم، أوربن نفسه، يرى في الصين أحد نماذج دولته غير الليبرالية.

لا عجب، إذاً، أن تفاعل معظم هذه الأحزاب مع تملق بانون جاء خالياً من الحماسة، صحيح أن بانون اعتبر حزبَي "الفنلنديين الحقيقيين" و"الديمقراطيين السويديين" النموذج المثالي، إلا أن أمين عام الحزب الأول أعلن أنه "سيرفض على الأرجح" مساهماته، في حين أكّد الحزب الثاني أن مبادراته "لا تهمهم".

أما عن الائتلاف المزعوم مع جونسون، فيعود بالفائدة على بانون، فمنذ استقالة جونسون من منصبه كوزير للخارجية، يُعتبر الأوفر حظاً ليحل محل تيريزا ماي المحاصرة، لكنه لا يحتاج إلى تصديق ترامب ولا مساعدة بانون ليصبح رئيس وزراء. باختصار يسعى بانون إلى ربط نفسه بقادة أوروبيين ناجحين في صفوف اليمين المتشدد كي يستعيد أهميته السياسية.

إذاً، هل يعني هذا أن الموجة الأخيرة من انشغال وسائل الإعلام ببانون غير ذات أهمية؟ كلا على الإطلاق، فالمقالات التي تأخذ خططه العظيمة على محمل الجد تعزز رواية أن الانتخابات الأوروبية لعام 2019 ستشكّل مرة أخرى صراعاً أساسياً بين الوضع القائم والقوات المناهضة للوحدة الأوروبية. ويشير هذا إلى أن اليمين المتشدد سيستمر في وضع الأجندة السياسية وأن أطره ستواصل هيمنتها على الحملات الانتخابية.

تتوافر اليوم أدلة كثيرة تُظهر المنحى الذي تسلكه هذه التطورات، وتسير الأحزاب الرئيسة، وخصوصاً أحزاب اليمين الوسطي، أكثر فأكثر في هذا الاتجاه، ساعيةً إلى استرضاء المتشددين ليس على صعيد القضايا فحسب بل على صعيد السياسات أيضاً، وتُعتبر مسودة برنامج حزب الشعب الأوروبي الجديدة خير مثال على هذا التأثير.

ولكن رغم نجاحات "مؤقتة" عدة، مثل نجاح سيباستيان كورز في النمسا، لا يؤدي تبني الوسط استراتيجية "اليمين المتشدد" إلى إضعاف خصومه كثيراً، بل على العكس يقويهم، كما نرى من هولندا إلى السويد، حيث حققت الأحزاب اليمينية المتشددة مكاسب كبيرة، فعندما تسيطر معارضة التكامل الأوروبي وهجرة (المسلمين) على الحملة، يختار ناخبو تلك الدول الحقيقيون الأصلي بدل النسخة.

وهنا يكمن الخطر، ليس في شخص سياسي يرغب في أن يكون راسبوتين هذا العصر ويبحث عن قيصر جديد.

*«كاس مود»