مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الجزائرية المقرر إجراؤها في ربيع العام المقبل، تعالت داخل معسكر النظام الجزائري، الأصوات التي تدعو الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة إلى إعلان ترشحه لولاية رئاسية خامسة، مما تسبب في جدل كبير، وتساؤلات محيرة في الشارع الجزائري عن الأسباب غير المعلنة وراء إصرار رموز النظام على دعوة بوتفليقة للترشح رغم تدهور حالته الصحية، وحالة الارتباك هذه تؤكد أن النظام الجزائري صندوق أسود مغلق بإحكام، ومن الصعب التنبؤ بخياراته، ومعرفة صاحب القرار داخله.

تثير الدعوات التي تطالب بوتفليقة بتولي ولاية خامسة الدهشة، إذ إن ترشح الرئيس لولاية خامسة؛ مخالف للدستور المعدل في السابع من فبراير 2016، الذي حدد ولاية الرئيس لولايتين فقط، بعدما كانت مفتوحة، ويؤكد بعض خبراء الفقه الدستوري أن بوتفليقة يمتلك الحق في الترشح مرة أخرى في الانتخابات المتوقع إجراؤها في عام 2019، نظرا إلى أنه لا يجوز تطبيق مواد التعديل الدستوري الجديد «بمفعولٍ رجعي»، والمثير هنا هو أن قرار بوتفليقة بالترشح لفترة خامسة، قد يجنح بالبلاد نحو منعطف خطير من عدم الاستقرار.

Ad

وفي كلمة ألقاها أمام أعضاء مجلس الأمة، ناشد رئيس المجلس- الرجل الثاني في الدولة الجزائرية- الرئيس بوتفليقة استكمال المسيرة بإعلان ترشحه لولاية رئاسية خامسة، وهي الدعوة نفسها التي أطلقها بعده بساعات قليلة، رئيس البرلمان.

ويمكن تفسير تحمس أعضاء النظام لتولي بوتفليقة الحكم لولايةٍ خامسة على أنه انعكاس للاتجاه العام للنظام الذي يقدس الاستمرارية، بدلاً من التعبير عن مصالح فردية أو حزبية محددة.

التهافت على الموالاة لرئيس لم يخاطب شعبه منذ عام 2012، يطرح تساؤلات بشأن الدوافع والمكاسب من استمراره رغم ظروف مرضه، فبوتفليقة (81 عاماً) بات نادر الظهور منذ إصابته بجلطةٍ دماغية عام 2013، أقعدته على كرسي متحرك، وأثرت في قدرته على الكــلام، ولم يمنعه ذلك من الترشح العام التالي لولايةٍ رابعة، حيث فاز بها من دون أن أي حملة انتخابية، لكنه لم يمارس مهامه بالشكل المطلوب، وغاب عن الأنظار طويلاً. في الفترة الماضية مثلاً، لم يظهر إلا مرتين، حين دشن صرحاً صوفيا ومسجداً، تفقد بعدها مشروع جامع الجزائر الذي ينتظر أن يكون أحد أكبر المساجد في العالم، ويبدو أن هذا الظهور المفاجئ يوحي برغبة الرئيس في الترشح لولاية خامسة.

ومن جهة أخرى، تتّهم المعارضة محيط الرئيس وخاصة شقيقه الأصغر إلى جانب مجموعة من رجال المال، باستغلال مرض بوتفليقة؛ للاستيلاء على السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة، كما أنها تعتبر الترتيبات الحالية للدفع به إلى ولاية خامسة؛ ترتيبات غير مقبولة في ظلّ ما تعانيه الجزائر من أزمةٍ اقتصادية خانقة، وما تشهده من خنقٍ للحريات، وقمع للأصوات المعارضة.

وفي مايو الماضي، قامت أربع عشرة شخصية جزائرية معارضة بتوجيه رسالة إلى الرئيس بوتفليقة، تطالبه فيها بعدم الاستجابة لدعوات ترشيحه لولاية خامسة، معلّلة موقفها بأنّ الأمر سيكون بمثابة «كارثة له وللبلاد».

وجاء في الرسالة: «تحاول قوىً خبيثة دفعكم نحو ولايةٍ خامسة، ننبهكم ضدّ الخطأ الجسيم الذي قد تقترفونه؛ في حال رفضتم الاستماع إلى صوت الحكمة الذي يخاطب الضمير في الأوقات المصيرية». ورغم أن الشخصيات المحسوبة على المعارضة ترى أنّها تعمل للمصلحة العامة، وليس لخدمة مصالح سياسية معينة، فإنّ تأثيرها كان محدوداً في ظل ضعف المعارضة وحالة التشظّي والانقسام التي تعانيها في ضوء حملات القمع الحكومية.

وبالرغم مما سبق ذكره، تؤكّد كل المؤشرات أن ترشح الرئيس بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة أصبح قراراً حتمياً، وهذا لا يعفي النظام من ضرورة مراجعة قراره قبل المضي قدماً، فاستمرار الوضع القائم في الجزائر قد يفتح المجال واسعاً لحراك سياسي لا قدرة للدولة عليه، خصوصاً في ظل التحديات الإقليمية والداخلية التي تواجه البلاد.

نظراً للواقع الاقتصادي يبدو أن الجزائر مقبلة على مستقبلٍ غامض، في ظلّ استمرار تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية وفشل الحكومة في تنويع اقتصادها الذي يعتمد بشكلٍ أساسي على عائدات الجباية النفطية بأكثر من 95 في المئة، كما أن هناك تنامياً واسعاً لمشاعر الغضب الشعبي تجاه الحكومة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، نظراً الى ارتفاع معدلات البطالة المتزايدة، وتفشي الجرائم، وانهيار القدرة الشرائية للمواطن الجزائري. وما قد يعقّد الأوضاع أكثر هو استعداد الحكومة للتخلّي مطلع عام 2019، عن سياسة الدعم الحكومي المطبّقة على بعض المنتجات الأساسية، وخصوصاً الوقود والكهرباء، وهي الخطوة التي قد تفجّر سخطاً شعبياً واسعا، لا يمكن التنبؤ بحجم عواقبه.

إضافة إلى ذلك يعيش المشهد السياسي الداخلي تأزماً كبيراً بفعل التضييق على المعارضة، مع تجاهل السلطة لمطالبها بضرورة الإصلاح السياسي الشامل، كما يعاني البلد التضييق على حرية الرأي والتعبير، حيث بات المدوّنون الناقمون على الأوضاع معرضين في كل لحظة لتهمة «إهانة هيئة نظامية»، لدرجة أصبح معها مختلف المحاكم الجزائرية يعج بمثل هذه القضايا، فيما تعاني وسائل الإعلام المستقلّة بدورها حالة تضييقٍ غير مسبوقة، أدّت إلى تجفيف منابع الإعلان الحكومي والخاص، مما تسبّب في إفلاس عشرات الصحف.

وإذا كانت هذه هي حال الوضع الداخلي؛ فإنّ الوضع الخارجي لا يختلف عنه كثيراً، إذ تواجه الجزائر الكثير من التحديات الأمنية، فحدودها الواسعة ملغومة في ظلّ تنامي النشاط الإرهابي في دول الجوار، وخصوصاً ليبيا ومنطقة الساحل، كما أنّ تنامي عدد قوافل المهاجرين غير الشرعيين الذين يقصدون الجزائر باتجاه أوروبا أضحى معضلة جديدة كبرى للحكومة الجزائرية، في حين تعيش الدبلوماسية الجزائرية أسوأ مراحلها، في ظل غيابها عن المشهد الدولي والإقليمي، بسبب مرض الرئيس الذي لا قدرة له على التنقل خارج البلاد، حتى باتت الدولة في عزلة تكاد تجمد علاقاتها الخارجية.

وختاماً، وفي ظل الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية الصعبة التي تمرّ بها البلاد، فإن ترشح بوتفليقة لفترٍة رئاسية خامسة مخالفة للقانون؛ قد تدخل البلاد في نفقٍ مظلم قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، المفروض أن يفكر النظام الجزائري في البحث عن سبل تجاوز هذه الأوضاع الخطيرة، وأولها التمهيد لفتح حوارٍ جديّ وحقيقيّ مع الطبقة السياسية وخبراء الاقتصاد؛ لإجراء إصلاح سياسي واقتصادي شامل وسريع، يكون بمثابة خطوة أولى قوية نحو التغيير الإيجابي.

وفي حال اختار النظام طريق الإصلاح؛ ينبغي أن تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة بوابةً لذلك، عبر إجراء انتخاباتٍ نزيهة وحرّة وشفافة، تفرز مؤسسات دولة تحظى بالشرعية والدعم الشعبي، ولا يمكن الوصول إلى هذا الهدف إلا بتشكيل لجنة مستقلة عن وزارة الداخلية لمراقبة الانتخابات، وهو مطلبٌ رفعته المعارضة لسنوات، واستمر النظام في تجاهله، ومهما كان من أمرٍ، حان الوقت كي يتجنّب هذا النظام تدهور الوضع العام للبلد، كي يستفيد ممّا قد يكون فرصةً ذهبية للجزائريين للتحرّك نحو مساحةٍ انتخابية تتخطّى بوتفليقة والدائرين في فلكه.