أثبتت اعتداءات جيش الاحتلال على المسجد الأقصى، وبطشه المكرر ببلدة كوبر وغيرها، أن إسرائيل تترجم قوانينها التهويدية العنصرية إلى أفعال على الأرض، كما أثبت التصدي الشعبي بالمقاومة الشعبية أنه السبيل الفعال لمواجهة الهجمة الصهيونية.

وعقد في اليومين الماضيين، في إسطنبول، لقاء سياسي مهم ضم قيادات فلسطينية من الصف الأول، وعددا من المفكرين والباحثين الفلسطينيين من الداخل والأراضي المحتلة والخارج، وشاركت فيه قيادات من حركتي فتح، وحماس، والجبهة الشعبية، والمبادرة الوطنية، وحركة الجهاد، والجبهة الديمقراطية، وكان عنوان اللقاء كيفية مواجهة صفقة القرن.

Ad

ما كان واضحا في اللقاءات التي تمت أن صفقة القرن تمثل من جانب أخطر تحدٍّ سياسي دولي واجهه الفلسطينيون باعتباره خطة تم إملاؤها إسرائيليا لتصفية القضية الفلسطينية، ولكنها تمثل من جانب آخر تعبيرا عن أمر أشمل وهو الاختلال الحاد في ميزان القوى، بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الصهيونية، والتي تعتبر أن الوقت صار ملائما لتكشف عريها الكامل كحركة عنصرية.

وتجلى ذلك في سلسلة القوانين العنصرية التي كان ذروتها قانون القومية الذي تناولنا تفاصيله في مقال الأحد الماضي، وخلاصته أن فلسطين بكاملها، وما يمكن ضمه لها من أراض عربية، هي لليهود فقط، وأن إسرائيل على استعداد للتضحية بادعاء الديمقراطية، لمصلحة اليهودية، والقبول دون خجل بأنها منظومة الأبارتهايد العنصرية الأسوأ في تاريخ البشرية.

وبرأيي فإن الحركة الصهيونية انتقلت إلى المرحلة الثالثة من مشروعها؛ إذ كان هدف المرحلة الأولى والتي امتدت من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1948 تأسيس الوجود اليهودي في فلسطين بالاستيطان، وتوسيعه بالهجرة اليهودية حتى إعلان قيام إسرائيل.

أما المرحلة الثانية فكانت استكمال احتلال باقي أراضي فلسطين، وتكرار نموذج التوسع الاستيطاني في القدس وباقي الضفة الغربية، واحتواء نتائج الانتفاضات الوطنية الفلسطينية، مع تغذية الانقسامات الداخلية لإضعاف الجانب الفلسطيني، واستخدام فصل غزة عن الضفة لإبطال تأثير التحدي الديمغرافي.

أما الآن فبدأت المرحلة الثالثة، وهدفها تصفية كل مكونات القضية الفلسطينية بدءا من حق العودة، والقدس، ومرورا بتصفية فكرة الاستقلال في دولة فلسطينية، وانتهاءً بمحاولة ترحيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من أرض فلسطين التاريخية، وبتحقيق التطبيع مع المحيط العربي على حساب فلسطين وشعبها.

أما منظومة الأبارتهايد العنصرية، فقد أصبحت ضرورة سياسية لاستمرار الاحتلالي الكولونيالي الإسرائيلي، وللتعايش مع معضلة إسرائيل الكبرى وهي الوجود الديمغرافي الفلسطيني الصامد ببطولة على أرض فلسطين، سواء في الداخل أو في الأراضي المحتلة، وهي منظومة لن تتوقف، بطابعها الصهيوني، عن محاولة طرد الفلسطينيين من فلسطين بكل وسيلة ممكنة، وهذا واحد من أهم اختلافاتها عن نظام الأبارتهايد الذي نشأ في جنوب إفريقيا.

وإذا كان من شبه المستحيل تكرار تجربة التطهير العرقي الشامل التي نفذتها الحركة الصهيونية عام 1948، فإنها تمارس فعليا الآن تطهيرا عرقيا تدريجيا، يشمل 62% من الضفة الغربية بما في ذلك الأغوار والقدس، وذلك يظهر أهمية ما يجري في البلدة القديمة في القدس، والخان الأحمر.

الأمر الجوهري بالنسبة إلينا كفلسطينيين هو إدراك أننا لم نكن، ولسنا، ولن نكون في مواجهة تكتيكية عابرة مع الحركة الصهيونية، بل هي مواجهة استراتيجية شاملة، تستند إلى إدراك أن الحركة الصهيونية بكل مكوناتها اليمينية واليسارية قد أنهت فكرة، وإمكانية، ما سمي بالحل الوسط على علاته، أو ما يسمونه دوليا "حل الدولتين"، وبالمناسبة لم يكن صحيحا، ولم يعد ممكنا، الاعتقاد بأن هناك صهيونية معتدلة أو يسارية، فالصهيونية عنصرية، ولا يمكن لمعتدل أو يساري أن يكون عنصرياً. ولا يمكن أن يكون الرد على الحركة الصهيونية استراتيجيا، إن استمر الاعتراف بإسرائيل بعد أن أعلنت أنها تتبنى العنصرية الدينية اليهودية، وبعد أن قررت شطب الحقوق القومية والمدنية للشعب الفلسطيني، وكل حقه في الوجود على أرض فلسطين، كما لا يمكن أن يكون الرد استراتيجيا إن استمر التنسيق الأمني مع المنظومة الإسرائيلية، والذي قرر المجلس المركزي إنهاءه، أو إن جرى التعاطي مع ما يسمى بالحلول الاقتصادية، أو فكرة دويلة في غزة، أو إن قبل التعامل من أي كان مع صفقة القرن المرفوضة.

الرد الاستراتيجي يتطلب التخلي عما فشل، وعن وسائل وأساليب المرحلة التي استمرت سبعة وعشرين عاما منذ عقد مؤتمر مدريد، وبعد أن وقع اتفاق أوسلو، بمفاوضاتها، وشعاراتها، وأساليبها.

والرد الاستراتيجي يتطلب الانخراط الواسع في المقاومة الشعبية، وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات ضد منظومة الأبارتهايد بكاملها، إلى جانب الجهود السياسية لعزل إسرائيل وسياساتها، كما يتطلب تفعيل وتوحيد طاقات كل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والأراضي المحتلة والخارج، وتكريس كل السياسات الاقتصادية والمالية لهدف أساسي واحد، دعم صمود وبقاء الشعب الفلسطيني. ويتطلب قبل كل شيء، وأهم من كل شيء، إنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني، وبناء قيادة وطنية موحدة قادرة على مواجهة التحديات من خلال تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية في إدارة وقيادة معركة التحرر الوطني ضد الهجمة الصهيونية.

التحدي الاستراتيجي يتطلب ردا استراتيجيا، فكل وجودنا، وتاريخنا، ومستقبلنا، صار على المحك.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية