أليست التنمية البشرية «مهنة من لا مهنة له» عندنا في الوطن العربي؟ فهي مهنة محترمة في مجتمع يقننها، ويمرر محتواها على لجان تحكيم علمية من أطباء نفسانيين لا مستشاري تسويق! لتثبت سلامة «المنتج» الثقافي على الصحة النفسية للمستهلكين؛ يعني لجنة تحكيم من أطباء أطفال أو ناضجين أو ذوي احتياجات خاصة، ولكن أين التقييم عندنا؟

فهنالك مفاهيم تعتبر مسرطنة سيكولوجياً تبث لكل الأعمار وكل الشرائح بلا رقيب ولا حسيب! مثل إدخال الضحية في دائرة الألم والأمل، أو تحميله تأنيب الضمير بأن كل صعوبة في حياته هو من «جذبها»! فكم من طبيب نفساني وقاض ومحامٍ يحمي المستهلك، ففي الغرب يُغَرمون ويجرمون العابثين في أذهان الناس، أما عندنا فالعبث على قدم وساق في عقيدة المرء ونفسيته، فكل من سولت له نفسه استغلال حرف الدال أول اسمه، ما عليه سوى الصياح بكل حماس بعبارات سطحية مثل «كن سعيدا للأبد!» أو«اقض على كل سلبية في حياتك!»، ليدفع الناس ثمناً وقدره لأجل أن يسمعوا نصائح بدهية رددوها في الإعدادية، ولكن أين الخطر؟

Ad

لما يروج دكتور كتابه الذي يأمر فيه زبائنه بترديد عبارات معينة وفي أوقات محددة، لكي يبثوها بأثير الكون «على حد تعبيره»؛ بحجة أن هذا الطَقس سيغير قضاءهم وقدرهم، ويحثهم على أن يشحنوا هالة أرواحهم بموسيقى موجودة في قرص يباع مع كتابه، ويَعد من يشتري بطاقة دخول لدورته أن تتحول حياته للأبد إلى سعادة لا يشقى منها، فهنا يستدعي الأمر التحقيق، فأين حماية المستهلك من وعود كاذبة كهذه؟ فالحياة هي هي، لا تتغير بعبارات أو نشوة جمهور بدورة مؤقتة، ولا يوجد مفهوم يغير حوادث الحياة، والافت أن المستهلك لن يلوم سوى «كآبته» على «فشله» الذي اشتراه ممن غشه.

واجهت دكتوراً عظيم الشهرة يدّعي أننا مجرد مجال من الطاقة، ويقصد بذلك أننا غيمة من الطاقة المنخرطة مع الكون، نبث كل رغباتنا وقلقنا فيعيد الكون لنا بالمثل، وهذا المفهوم هو من أصل معتقد «وحدوية الوجود» للبوذا، التي تؤمن أننا في ذات الإله وأن الإله ليس سوى طاقة الكون التي تسري فينا لا مشيئة له ولا يحاسبنا، فعندهم كل الذوات واحد من خليقةٍ وخالق، ولا يعتقدون أن إرادة الله، سبحانه وتعالى، هي سبب انبثاق الوجود.

التقيته في مكتبه الخاص، فقلت له «فيزيائياً أنا ككتلة لا أحتوي إلا على نسبة صغيرة جدا من نانو-فولتات، ولن أبث موجة كهرومغناطيسية منها لتملأ شارعا واحدا من الكويت، فكيف الكون بمجراته المقدرة تقريبا بمئة مليون مجرة؟ كيف أشحن الكون كله لأغير قضائي وقدري؟ وكيف أعيش وأنا أعلم أنني أنا المسؤول عن جلب المرض لأقربائي؟ أو أن نجاحي بكل شيء مرهون بذاتي وليس بعملي؟».

نظر في ساعته، وعبس وقال: «ليس لدي وقت»، نهضت وقلت وأنا أغادر «أنتم أقحمتم الفيزياء في علم الغيب؛ ستبقون في مواقف محرجة علمياً ودينياً دائماً»، وأقول لسائر زملائه، إن تحدثونا عن غيب فأفصحوا عن المصدر الديني لأن الغيب ليس علما تجريبيا، وإن تسترتم بالعلم، فتفضلوا إلى المختبر.