نحن شعوب تحب الطعام وتتفنن في جعله شهيا جذابا؛ بداية من الرائحة والشكل وطريقة التقديم، انتهاء بالمذاق. دخل الطعام لدينا ضمن الأنساق الاجتماعية فأصبح علامة في ثقافاتنا العربية على الكرم والاهتمام والحفاوة، كما اقترنت أنواع منه بكثير من المناسبات، كارتباط السمك بشم النسيم في مصر، واللقيمات والمشبك برمضان في الكويت، والأوزي بالمآتم في دمشق، وغير ذلك في الثقافات العربية كلها.

لم يكن من الغريب في مجتمعات تحتفي بالطعام كل هذا الاحتفاء أن تنتشر محلات الوجبات السريعة الغربية، فهي حالة مختلفة من الطعام وطرائق تقديمه، أثارت شهية الاكتشاف والتجريب ربما بأكثر ما أثارت شهية الأكل نفسها، ثم تحولت وجبات الطعام السريعة إلى جزء من عاداتنا الغذائية كسرطان تمدد في الذائقة العربية، ما أثر على نوعيات الطعام التي تقبل عليها الأجيال الشابة منذ بدايات التسعينيات. وكردة فعل على هذه المطاعم بدأت الثقافات العربية تبحث عن أكلاتها وتعلنها على لافتات المطاعم: أكلات كويتية، أكلات يمنية، أكلات لبنانية ..الخ. لكن طبيعة التفكير الاقتصادي الغربي سمح لمطاعم الوجبات السريعة الأمريكية أن تنتشر بسرعة انتشار الإعلام الأمريكي في العالم كله عبر آلاف الأفرع، رغم أنها بشهادة كثير من الأطباء غير مفيدة صحيا، بل ربما كانت مضرة بصورة تصل أحيانا إلى حدود الخطورة.

Ad

بالأمس دعاني صديق إلى مطعم صبحي كابر في القاهرة، ولهذا المكان قصة أساسها المهارة والأمانة. شاب مصري امتلك عربة طعام صغيرة، لكنه أصر على أن يكون مختلفا، هو يقدم أكلات مصرية جدا بإتقان شديد وبخامات ممتازة، فكان النجاح نصيبه في واقع ثقافي يكاد يغيب عنه الإتقان. تحولت العربة إلى محل صغير تمتد مناضده حوله في جميع الاتجاهات لتحتل الحارة الشعبية كلها، ثم لتحتل ما حولها من حارات. وكان من الطبيعي أن يستعين بشباب الحي ليعاونوه، مساعدا دون قصد في القضاء على جزء من البطالة في محيطه الضيق. ظل الأمر يتوسع إلى أن أصبحت عربة الأكل مبنى ضخما من عدة طوابق يعمل فيه المئات، ويعمل حوله العشرات في توقيف السيارات والتأمين وتنظيم دخول الزبائن.

اخترع كابر طرقا ذكية لتقديم الطعام المصري التقليدي؛ كأن يقوم الطباخ بصنع «طشة» الملوخية أمام الزبائن، وتقديم الطواجن المغرقة في محليتها، وإنشاء مخبز خاص به يقدم الخبز ساخنا. في العمق هناك أمران ضمنا النجاح الكبير: الإغراق في المحلية، ومعيار الكفاءة بكل ما يرتبط به من إتقان وأمانة واحترافية في تقديم الخدمة. والسؤال الذي شغلني بعد تجربة كابر هو: لماذا لا تهتم الدول العربية بتقديم طعامها التقليدي بهذه الصورة المشرفة، وتوسيع الأمر ليصبح مشروعا قوميا: سلاسل من المطاعم يمكنها أن تغزو العالم لما للطعام الشرقي من خصائص تختلف عن غيره، وتحويل جانب من تلك المطاعم إلى منافذ للوجبات السريعة؟ لماذا لا تحاول الدول العربية دعم تلك المشاريع الفردية دون إدخالها في دائرة الروتين القاتلة، لتساعد أصحابها في الوصول إلى أكبر عدد من الدول في المنطقة وعلى مستوى العالم؟

الطعام ملمح ثقافي لا تثقله الصراعات السياسية كالفنون والآداب، وأثق أن لقصة نجاح الشاب المصري قرينا في كل بلد عربي، ويمكن بقليل من الاهتمام والدعاية وتسهيل الإجراءات أن يحل «كابر» وأمثاله محل «كنتاكي» وأمثاله.