خلال قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخيرة، مزّق ترامب الصاخب حاجز المجاملات الرقيق ليكشف عن جرح الناتو القديم والعميق، جرح يعود إلى ما قبل ترامب بنحو 30 سنة ويرجع إلى نهاية الحرب الباردة.

أما زال "الناتو" يحمي الغرب؟ وهل يحول دون نشوب الصراعات الأوروبية المدمرة؟ وهل يصون النظام العالمي بعد الحرب الذي يقوم على حرية التجارة، والمعاملات التجارية، والسفر، والتواصل؟ وهل "الناتو" أو الولايات المتحدة وقيادتها "الناتو" السبب الحقيقي لتفادينا الحرب العالمية الثالثة أو عودتنا إلى الفوضى والقبلية العالميتين؟

Ad

نتيجة توسع "الناتو" بعد الحرب الباردة ليشمل 29 أمة وليبلغ حدود روسيا، أصبح أكثر كلفة مما كان عليه عندما اختفى الخطر السوفياتي الوجودي القديم، لكن ازدياد عدد الأعضاء ساهم في إضعاف الروابط الشائعة، حتى مع اختفاء المخاطر المشتركة.

تُظهر استطلاعات الرأي أن فكرة المحاربة نيابة عن بلد آخر تلقى في معظم دول "الناتو" دعماً شعبياً محدوداً، ففكرة أن يسير الهولنديون إلى إستونيا بغية إنقاذ عاصمتها تالين من روسيا دعابة مرة، فلا تتمحور مشكلة "الناتو" في القرن الحادي والعشرين حول الولايات المتحدة، التي تؤمن نسبة كبيرة من موارده، بل حول ألمانيا، فتُرسل برلين الإنذارات إلى أمم أوروبا الجنوبية المدينة، كذلك تحاول برلين وحدها فرض سياسة الهجرة على الاتحاد الأوروبي. وأنشأت برلين نفسها الظروف الصعبة التي تستطيع المملكة المتحدة في ظلها الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعندما قررت برلين أنها لن تسدد نسبة الـ2% من ناتجها المحلي الإجمالي التي تعهدت بها كمساهمة في "الناتو"، حذت الدول المتردد الأخرى حذوها، فستّ دول فقط من دول "الناتو" التسع والعشرين (غير الولايات المتحدة) التزمت حتى اليوم بما تعهدت به من تقييمات.

يُعتبر جمع ألمانيا بين الثراء الكبير والبخل العسكري مذهلاً حقاً، فقد كدست ألمانيا أكبر فائض تجاري في العالم مع نحو 300 مليار دولار، بما فيها فائض تجاري بقيمة 64 مليار دولار تقريباً مع مَن يحسن إليها عسكرياً، الولايات المتحدة. رغم ذلك تفتقر ألمانيا إلى الجاهزية العسكرية، وخصوصاً من ناحية الدبابات والطائرات المحاربة.

ما زال "الناتو" في الظاهر يحمي أوروبا من روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، تماماً كما أبقى في الماضي الجيش الأحمر السوفياتي خارج ألمانيا الغربية، ولكن رغم اعتراضات جيرانها في دول البلطيق وأوكرانيا، عقدت ألمانيا لتوها صفقة خط أنابيب غاز مع روسيا، التي تشكّل خطراً مزعوماً يجعل ألمانيا بحاجة إلى الأمن المدعوم من الولايات المتحدة.

لكن المفارقة الكبرى تكمن في عداء ألمانيا المتنامي تجاه الولايات المتحدة، ففي نهاية عهد أوباما، عبّر 57% من الألمان عن نظرة إيجابية إلى الولايات المتحدة في استطلاع للرأي أجراه مركز بيو، لكن النسبة تراجعت إلى 35% خلال السنة الأولى من عهد ترامب، كذلك كشفت استطلاعات رأي أخيرة أن ألمانيا ترى روسيا بقيادة بوتين أكثر مصداقية من الولايات المتحدة. ولكن لمَ تبدو ألمانيا الدولة الأكثر معاداة للولايات المتحدة بين دول أعضاء "الناتو"؟

بدأت ألمانيا حربين عالميتين وخسرتهما، وتعود خسارتها في جزء منها إلى دخول الولايات المتحدة الحرب في مرحلة متأخرة، كذلك أتاح توحيد ألمانيا ملايين الألمان الشرقيين الانتقال إلى ألمانيا الغربية، علماً أن كثيرين منهم تربوا في ظل النظام الشيوعي الذي حمّل الولايات المتحدة مسؤولية كل مشاكل العالم. بالإضافة إلى ذلك، عندما تؤمن روسيا أكثر من نصف حاجة ألمانيا للغاز الطبيعي بدل أن تهدد بإطلاق الصواريخ النووية التكتيكية على برلين، لا يعود الجيش الأميركي بالأهمية ذاتها بالنسبة إلى أمن ألمانيا. تطالب ألمانيا بأن تبقى الولايات المتحدة ممول "الناتو" الأكبر، مع أنها تملك نظرة سلبية إلى الولايات المتحدة ونظرة تزداد إيجابية إلى الخطر المشترك المفترض الذي يهدد "الناتو" وهو روسيا.

أما أمم "الناتو" الأوروبية الخائفة الأخرى، فاعتادت الخضوع لهيمنة ألمانيا، لذلك تلتزم الصمت أو تحذو حذوها. هذا هو الناتو الذي ورثه ترامب والذي يحاول هزه بمناورات فن عقد الصفقات التقليدية التي اعتدناها منه، وقد يكون ترامب صاخباً وفظاً، إلا أن حجته، التي تشدد على ضرورة أن تدفع دول "الناتو" مبالغ أكبر مقابل الدفاع الذاتي المتبادل في هذا الائتلاف، صائبة، وإذا نجحت مناورات ترامب هذه، فستؤدي إلى حلف أقوى.

في المقابل، تبدو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل محترفة ودبلوماسية كالمعتاد فيما تواصل إضعاف الائتلاف والسعي وراء مصالح ألمانيا التجارية والمالية على حسب زملائها في "الناتو".

* فيكتور ديفيس هانسون

* «ناشيونال ريفيو»