كلما نبشت خلف مركز بحثي عريق وما جرى له من تحولات سواء على مستوى المواضيع أو نوعية الدراسات والبحوث والحلقات الحوارية أو المواقف السياسية أو حتى قوائم المدعوين للمشاركة في الحوارات التي تتناول واقع ومستقبل منطقتنا المنكوبة، تبين لك أنه قد وقع تحت "إغراء" الأموال القادمة من خارج حدود ذاك البلد.

فالمراكز البحثية التابعة للجامعات أو غيرها والتي في معظمها إما في واشنطن العاصمة أو في بعض العواصم والمدن الأوروبية الأخرى لم تكن أصلا "بريئة" ودون أهداف "سامية"! سواء كنت من "جماعة" نظرية الموامرة أو لم تكن لا تستطيع أن تتصور أنها كانت بعيدة عن دوائر صنع القرارات والمواقف السياسية، إلا أنها وككل المراكز في تلك الدول لا تستطيع أن تبعد عن تراثها في فتح مساحات للآراء على اختلافها والاستماع لمن هو مساند لسياساتها في المنطقة والعالم أو حتى من بعض المعارضين "المرنين" كما يحب البعض تسميتهم.

Ad

يبدأ الإحساس بهذا التغيير حتى قبل أن يفتضح الأمر عبر صحف ما زالت تسعى إلى المحافظة على بعض مساحات الاستقلالية والموضوعية المغضوب عليها، والتي أصبحت مادة للكتب الدراسية في الجامعات فقط، حيث يتعلم ذاك الطالب الجامعي الذي تصور أنه بدخوله كلية الإعلام سيكون جزءاً من أدوات التغيير في مجتمعه الصغير عبر فضح الفساد والفاسدين، والوقوف على ما يهمّ المواطن ومتابعة الموازنات العامة التي لا تزال صندوقاً أسود وسراً من أسرار الكون لا يحق للمواطن العادي ولا حتى المقرب جداً أن يطلع عليه!

لعن الله كتب التاريخ في مدارسنا التي صورت لنا أن النزاهة هي جزء من العبادة والصفات الحميدة للمواطن الصالح، وأن "بعض" الخلفاء كانوا من النزاهة أن رفضوا النوم وفي البلد جياع، فيما ازداد عدد الفقراء والجياع اليوم، وكثر رمي الطعام الزائد من موائد محدثي الثراء وهم كثر!! وانقسم المجتمع إلى عدد قليل من محدثي الثراء مع مجموعات كبيرة من محدثي الفقر أو الفقراء الجدد كما يحلو للبعض تسميتهم بعد أن تقلصت الطبقة الوسطى، حتى أنها قد تصبح مادة في مواد علم الاجتماع! أو يوضع لها ركن في المتاحف مع الديناصورات والكائنات المنقرضة!

يجهد الباحثون الشباب في الخليج في البحث عن مركز بحثي يحتضن طموحهم وتطلعاتهم، فلا يجدون سوى جدار خلف جدار لأن هذه المراكز دخلت منطقة الموالاة، وتحولت إلى أداة أو جزء من "الجيوش الدعائية" التي كثرت حتى تقلب باول جوزف غوبلز في قبره* ذاك الذي ردد "كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي". وفيما شهدت العقود الماضية أو ما قبل 2011 دعوات مستمرة لهم من قبل المراكز البحثية الأميركية والأوروبية وتهافت عليهم وعليهن الصحافيون المهتمون بمعرفة تفاصيل هذه المجتمعات التي تسمى "خليجية"، تحول الأمر سريعا إلى إهمال شديد لهم، وعدم تقبل لما يكتبون أو يبحثون أو يشاركون فيه في حوارات المراكز البحثية العريقة التي تعقد اللقاء بعد اللقاء في استفاضة لتشريح واقع المنطقة العربية وسيناريوهات مستقبلها، ولكنها وبعد عرضها للبيع كما هي حال الكثير من الصحف العريقة، وما صفقة الإندبندنت الأخيرة إلا واحدة من سيناريوهات كثيرة لخنق ما تبقى من صوت قد يحاول أن ينبش هذه التحولات السريعة، وينذر بمستقبل قد لا يكون كله ذهبا كما يحاول أن يصور بعضهم، فعلى الصحف المستقلة العالمية والمراكز البحثية السلام والرحمة، ألا تجوز الرحمة على الموتى وأشباه الأحياء؟!

* باول جوزف غوبلز (بالألمانية: Paul Joseph Goebbels) ‏ (29 أكتوبر 1897– 1 مايو 1945) وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر وألمانيا النازية، وأحد أبرز أفراد حكومة هتلر لقدراته الخطابية، وتولى منصب مستشار ألمانيا لمدة يوم واحد في 30 أبريل 1945 عقب انتحار هتلر.

كان والده فريدريك غوبلز، المحاسب ذو الدخل المتوسط ووالدته ماريان غوبلز، وعندما تطوّع في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، تم رفضه لتسطّح أخمص قدميه، وفي عام 1922 انضم غوبلز للحزب النازي، والطريف أنه كان من المعارضين لعضوية أدولف هتلر في الحزب عندما تقدم الأخير بطلب للعضوية إلا أنه غيّر وجهة نظره نحو هتلر فيما بعد وأصبح من أنصاره بل أحد موظفيه.

لقد أدى غوبلز دوراً مهماً في ترويج الفكر النازي لدى الشعب الألماني بطريقة ذكية، وقبيل إقدامه على الانتحار وفي الفصل الأخير من الحرب العالمية الثانية عينه هتلر ليكون مستشار ألمانيا كما اتّضح في وصية هتلر الخطيّة إلا أن الحلفاء لم يعترفوا بوصيته بعد سقوط الرايخ الثالث.

و"جوزف غوبلز" بناءً على ذلك هو مؤسس فن الدعاية السياسية بلونها الرمادي، واستطاع حينما كان يروج للفكر النازي بقوة أن يسوق في ركابه عشرات الملايين من الألمان، ورغم العداء الغربي للنازية، فإن جوبلز يعد مؤسس مدرسة إعلامية مستقلة بذاتها.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.